حينما أهداني الأديب الروائي الجزائري المبدع عز الدين جلاوجي نسخة من روايته الأخيرة "حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر"،حاورتها فباغتتني جملة تساؤلات منها:ماحدود العلاقة بين التاريخ والواقع الروائي؟ وهل الأديب في تعامله مع الحقائق التاريخية يقاربها أو يقوم بسردها بنفس مقاربة المؤرخ للحقائق ذاتها؟أي هل الزمن الروائي يستمد مكوناته من الزمن التاريخي؟هل التاريخ يحمل حقائق بريئة؟وإن كان كذلك فما حدود الاختلاف بينه وبين الرواية؟.... رواية التاريخ :الرؤية المتعددة وأبعادها أهم ما يعترض المؤرخ من صعوبات هو الاستمرارية في الزمن التاريخي والسببية،حيث لكل حدث سبب ما ،لكن ابتعاد المؤرخ عن راهن الحدث يضعه أمام إشكال الانقضاء ،ومن هنا يكون التغييب للكثير من الحقائق التاريخية ما يشكل ثغرة ما،إضافة إلى صعوبة رد الأحداث إلى مسبباتها مما يجعلها تبتعد عن حدود المعقول،وهذا ما يفسح المجال للمتخيل الشعبي للعمل إلى حد أسطرة الكثير من الوقائع وإعطائها صبغة متخيلة تبتعد عن حدود البوح الصريح أو الواقع الأصيل.من هنا تصبح الرواية التاريخية جنسا هجينا بجمعها بين الرواية والتاريخ.والرواية العربية لا تبتعد عما قلناه،إذ تظل خصوصيتها"مرتبطة بقدرتها على أن توجد داخل التاريخ وجودا إشكاليا،متفاعلا،وعلى أن تعتمد التاريخ لحل مشكلاتها"[1].يوضح الباحث أحمد حمد النعيمي أسباب لجوء الروائي إلى هذا النوع من الكتابة التي تختلط في معظمها بالغريب والعجائبي كما هو ملاحظ في روايتنا موضوع الدراسة في حديثها عن الأولياء الصالحين... بقوله:" لقد وجد بعض روائيي القرن الماضي (القرن العشرين) وخاصة العرب منهم في التاريخ مادة روائية ثرية،ليس لأنهم يريدون تذكيرنا بأحداث مضت،ولا لأن الموضوعات الروائية شحيحة لدرجة أنه يصعب التقاطها،وإنما لأنهم يريدون إسقاط حقائق عصرهم على تلك الأحداث الماضية،فلجأ بعضهم إلى ما يمكن أن نسميه"فانتازيا التاريخ" لإسقاطه على الواقع العربي الفانتازي،وكان ذلك لأسباب متعددة منها الخوف من السلطة السياسية في بعض الأحيان،والرغبة في قراءة مغايرة للواقع في أحيان أخرى.وبذلك يصبح زمن هذه الروايات ليس تاريخا بالمعنى الحرفي للكلمة،ولا واقعيا بالمعنى الحرفي للكلمة أيضا.إنها روايات تستتر خلف التاريخ لتكشف الحاضر،بمعنى أن التاريخ ستارها ،والحاضر مبتغاها،والفانتازيا أو التحليق في الخيال أسلوبها"[2].من هنا فهذا النوع من الكتابة الذي يبدو لنا اقتحاما لزمن الآخرين ،يحمل رغبة في تغيير العالم اليومي،إذ بعض الروايات تحاول"تشكيل تجاربنا العادية كما لو كانت تطالبنا بإدامة النظر ومراجعة حياتنا الفعلية"[3]. المرجعية:الذاكرة المنتهكة يعتمد التاريخ على مرجعية متحققة ،إذ يمكن التأكد منها عبر المراجعة المستمرة والبحث،بينما الرواية فتعتمد مرجعية ثنائية:التاريخ والتخييل،ومن ثمة تكون حدودها الالتباس،أي تداخل الواقع بالتخييلي أو المتحقق الحدوث والممكن بالمحتمل الوقوع،إذن فالرواية"بنية زمنية متخيلة خاصة،داخل البنية الحديثة الواقعية،أو بتعبير آخر أكثر عينية وتحديدا هي تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي.وقد يكون هذا التاريخ المتخيل تاريخا جزئيا أو عاما،ذاتيا أو مجتمعيا،فقد يكون تاريخا لشخص أو حدث أو لموقف أو لخبرة أو لجماعة أو للحظة تحول اجتماعي إلى غير ذلك.ورغم الاختلاف في الطبيعة البنيوية الزمنية بين المتخيل والموضوعي،فإن بين الزمنين أو التاريخين علاقة ضرورية أكبر من تزامنهما،هي علاقة التفاعل بينهما فبنية الرواية لا تنشأ من فراغ،وإنما هي ثمرة للبنية الواقعية السائدة الاجتماعية والحياتية والثقافية على السواء.وهي ثمرة بلغة التخييل لا بلغة الاستنساخ المباشر"[4]،وربما يظهرلنا من بداية الرواية هذا التلازم الثنائي ،حينما يصرح الكاتب بقوله:"أنا لا أومن بالمهدي المنتظر،هو مجرد خرافة رسمها خيال العامة المنهزمين تعلقا منهم بأمل ما،سيشرق يوما ليهزم ظلماتهم"[5]،إذن تتضح الرغبة المسيجة بالاستحالة،حيث"المهدي المنتظر"تعبير عن متخيل مأمول أو متعلق نفسي باحث عن إمكان حقيقي يتشبث به...،فهو اللحظة المنفلتة عن إطارها المرجعي المتخيل،والمتجردة من كل خصائصها الواقعية ،لتكون مسافة تماس بين الإمكان والمحتمل أو المستحيل الوقوع،"المهدي المنتظر" يمثل الواقعة التاريخية حينما تنسجم مع الخصائص الأدبية والفنية،هو الجنس الهجين أو البوح الواقف على حدود الالتقاء بين الواقع والخيال،"لكن حوبة تؤمن به وتنتظره بشوق كبير،وتظل تحكي عنه دون ملل أو كلل"[6]،أما حوبة فهي الحكاية هي الرواية بتوصيفها الأدبي ،حينما تحتضن التاريخ إمكانا وجوديا يلفه الصمت،لتخرج بوحه جماليا،أو تثير تلك الثغرات التي ينقصها التحقق الخطابي،أليس التاريخ خطابا سلطويا؟،إذن فحوبة هو الخطاب المحايث هو الزمن المنتهك روائيا أو المستبعد من صفة التحقق"حوبة حين تحكي تكون كالعين النضاحة،تنبجس الحكاية من كل جوارحها وجوانبها،فهي تشبه عيون مياهنا وحقول قمحنا،وطيور الكروان الحالمة في ليالي صيفنا.."[7]،من هنا يختلق عز الدين جلاوجي شخصيات محددة وبملامح معينة ،حيث يهرب من حدود الالتزام بالنقل الحرفي أو التوثيق الذي يحتم الاغتراف من زمن واحد،إذ التعدد الزمني يحتم على التخييل أن يخلق الإمكانات الكائنة والتي يجب أن تكون،وهذا مكمن الفرق بين المؤلف والمؤرخ الذي يعنى بكل ماهو معلوم سواء على مستوى الزمن أو مستوى الشخصيات،لذلك فالمؤلف"يشتق من شخصيات فعلية ما شاء من شخصيات متخيلة،نافخا الروح في من تنفس الهواء يوما وفي من ولد وقضى بين الحروف المتضافرة"[8].يبدأ زمن الاسترجاع في رواية"حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر" من بدايتها ،حيث الذاكرة المنتهكة روائيا،وحيث المسافات الزمنية المتعثرة أو المغيبة تفسح المجال للتفاصيل المتخيلة ،من هنا يبدأ المشهد الروائي في الظهور مع زمن الاستحضار ،حينما تظهر صورة "الزيتوني" مستحضرا تفاصيل جريمة أولاد سيدي النش والمتمثلة بقتل والده"بلخير"،"وتراءى له أبوه بلخير ممدا كجذع شجرة عملاق،وقد ضرجته الدماء وشكلت حوله بركا صغيرة،ورفع فيه الأب عينين مليئتين بالحسرة الذابحة ولم يفوه إلا:"أمك وإخوتك أمانة في عنقك"،وأسلم الروح،لكنه قرأ في عينيه غير ذلك،وأكثر من ذلك ،وأعمق من ذلك.."[9]،إن البدء بزمن الذاكرة في هذا النص هو تعبير عن الإيمان بالاعتبارات القبلية، ولعل "بلخير"هو رمز الحقيقة المغيبة أو الحق الذي أقصي بفعل رغبة التملك ،أو رغبة السيطرة على الزمن الحقيقي من أجل صياغته روائيا وفق ما تقتضيه الرغبة ،هو تلك اللحظة التي انتهكت من قبل التاريخ المؤسساتي أو من قبل سلطة التاريخ الرسمي ،من هنا فموت الذي يعيش بالخير أو الحقيقة الصافية ،تتبعه رغبة في التتبع والاستمرار الصامد ،إذ"الزيتوني" هو الممثل لذلك الامتداد الزمني والمكاني،هو ذاكرة المكان لا كما هو موجود وإنما كما أريد له أن يكون فصيغ تخييليا،ففي"بعض الأحيان تعود بنا أحلامنا إلى ماض بعيد غير محدد في الزمان حتى لتبدو ذكرياتنا عن بيت الطفولة وكأنها منفصلة عنا.إن مثل هذه الأحلام تربك أحلام يقظتنا فنصل إلى حد نبدأ فيه نشك في كوننا عشنا بالفعل حيث كنا نعيش.إن ماضينا يتحول إلى مكان آخر ويصبح الزمان والمكان مخترقين ومتخللين بحس غير واقعي،ونبدو لأنفسنا وكأننا أقمنا في مطهر عابر"[10].من هنا يبدو الصراع موضوع الرواية في بدايتها بين أولاد النش وأولاد سيدي علي هو صراع تمكين بين التاريخ الرسمي وتاريخ المقموعين أو المهمشين الذين يعيشون بمحاذاة الذاكرة المعلنة،أو هو زمن الطوارئ لأن العبارة الأولى"أنا لا أومن....." هو تنكر للتاريخ المؤسطر أو التاريخ المتخيل والذي تعيد الحكاية"حوبة"إليه الاعتبار .وحتى لا تظل اللحظة مبتورة في تمثلها الصراع الدائر بين العرشين ،يعود المؤلف إلى ذاكرة التناحر بسرد واقعه:"حدثه أبوه بلخير أن أولاد النش وأولاد سيدي علي ينسلون من جد واحد هو الحسين المكحالجي،وبعد موت الحسين اختلفوا بين الانصياع لفرنسا والاستمرار في محاربتها،ومن هنا صار الاخوة أعداء،وكان كلما ذكر هذا العداء قص عليهم سي الطالب حكاية داحس والغبراء،التي استمرت أربعين سنة وكادت تفني القبيلتين المتحاربتين. والحقيقة أن فلول العرش من أولاد الحسين المكحالجي حين وصلوا إلى هذه المنطقة هاربين بأنفسهم،انشطروا قسمين،قسم انصاع لعلي بن الحسين وهو رجل صالح ورع،وإليه نسب شطر العرش فقالوا أولاد سيدي علي،وهو الذي يرقد محاطا بطقوس الرهبة والولاء وسط المقبرة على ربوة شرق القرية،وشطر آخر انصاع لابن الحسين الأصغر بدعم من أصهاره ،وانضمت إليهم فلول قبائل أخرى فشكلوا عرش أولاد النش"[11].من هنا يتأسس المنطق الروائي على لحظة متكشفة أو على راهن حدثي واضح. استحضار الزمن المغيب وأزمة الحاضر: ينظر عز الدين جلاوجي إلى الماضي باعتباره مكونا زمنيا يحمل خيار الامتداد، ويفتح أسئلته على المسافات المعتمة التي ظلت في زوايا الذاكرة البعيدة،فالماضي هو استعادة تفرضها الحاجات الآنية،وتعبير عن أزمة الارتياب حينما تقابل الذات قيما مندثرة،وعالم خال من الإحساس بالمسؤولية،"ذلك أن العودة إلى الماضي احتجاج مرتبك على الحاضر،ومحاولة لالتماس إجابات تخفف من صورة الحاضر المرتبك وتساعد على التعامل معه"[12].من هنا صور المؤلف حياة الجزائريين في كفاحهم ضد الاستعمار،ذلك الكفاح الذي انقسم إلى نوعين:كفاح سلبي حينما عششت الرغبة في الانتقام داخل أفراد عرش سيدي علي وعلى رأسهم"الزيتوني" تعبيرا عن رفض واقع منهك،وكفاح إيجابي والذي بدأت بوادره من اللحظة التي تم فيها انتهاك الزمن الروائي وتغييره ناحية الاختراق أو الفعل الحقيقي،وذلك ابتداء من موقف"سي العربي" الذي اختطف "حمامة" رمز الحرية المطلوبة وغير مسار الحكاية،ليمثل النموذج الفاعل الذي يقوم بصنع بدائله الخاصة عن طريق التمرد،وخلق فرصته في التموضع داخل دائرة الموجود الاستثنائي المغير لكل فضاء مطابق،حتى الفضاء المكاني"القرية" لينتقل إلى فضاء مغاير"المدينة" معبرا عن انتقال حدود الرغبة من كونها شعورا وتخطيطا إلى فاعل حقيقي وتحقق وإمكان وجودي،وربما المدينة هي حدود التماس بين الحاضر والماضي أو بين الذاكرة والواقع الآني،حيث يصبح الحاضر/المدينة حاضنا أساسيا للوعي الذاكراتي/ القرية أو القرية/العربي موستاش الذي يتجرد من بعض خصائصه القبلية وملامحه المتوارثة تجردا جزئيا لا كليا تغيير الاسم اللقب وطريقة اللباس والعمل ،تحايلا على راهن مربك مشوش من أجل أن يؤقلم ذاته أو من أجل أن يؤسس زمنا يحترم الاعتبارات القبلية والخصائص الهوياتية لكن في حدود ما يخدم المستقبل ويؤمن استمراريته....،وربما الالتقاء ب"سي رابح" هو تأكيد على نجاح هذا التلاحم ،من هنا نستطيع القول أن هذه الرواية هي رواية تحريض بالدرجة الأولى:1 تحريض على التعامل مع الوطن بوعي أكبر ،2 تحريض على مساءلة التاريخ والاستفادة من معطياته ،3 تحريض على استحضار الماضي الأصيل في حدود ما يخدم اللحظة الراهنة،4 تحريض على خلق نموذج فعلي للمثقف الواعي بمسؤوليته. ولعل ما لمحنا إليه سابقا ماثل في موضعين:1 الانتقال الخارجي من القرية إلى المدينة ،2 الانتقال الداخلي بالتجرد التقريبي من الخصائص القبلية،فنجد مثلا العربي بن بلخير قد تجرد من اسمه وكينونته المتحققة والواضحة والمعبرة عن صورة انتماء معلوم،واستخدم الانتماء الوصفي أو الملحق اللفظي"موستاش"،والذي يجرد هويته من صفة الوضوح،وكأن ملامحه تتضح اعتبارا من المكان الفعلي أو من الوصف الآني لا من ذاكرة الانتماء وتاريخ التموضع ،وهذا يؤكد أزمة الذات بين الماضي والحاضر ،هذه الذات التي لم تتخل عن هويتها تخليا تاما من خلال الاحتفاظ باسم"العربي" الذي يعبر عن انتماء صريح وصارخ وإن كان معمما إلى حد الإبهام نوعا ما،وكأن بالذات تتحايل على سلطة الحاضر/المدينة رافضة وعيها المزيف والمستعار،بالاحتفاظ ببعض المنافذ التاريخية ،والأمر ذاته نجده عند المؤلف الذي تحايل بفعل الكتابة الرمزية عن التاريخ،معبرا عن أزمته بين راهن فقد معقوليته وماض سيج بالبطولة والقيم التي استبعدت آنيا. المنظور السلطوي /المنظور المضاد: تنشغل الرواية بطرح العديد من الأسئلة منها :عدم إمكانية التعايش السلمي بين المنتمين إلى وطن واحد،فكل طرف(أولاد سيدي علي وأولاد سيدي النش ) خلق لنفسه فضاء معاشيا خاصا به،حيث الأول يعبر عن الخطاب الشعبي،وأما الثاني فهو خطاب السلطة المستبدة،و"يصرح القتل المتبادل عن تربية مستبدة ،تلقن"المقاتل" بأنه مالك وحده للحقيقة،وبأن"إقناع الآخر" بها يشترط استئصاله أو استسلامه"[13]،من هنا فهذا التصور يسهم في خلق التعارض وصورة الرفض وعدم الاعتراف بالآخر ومحاولة إقصائه،وهذا ما وجدناه في الرواية إذ منطق القوة والسلطة يفرضان الاعتراف بفوقية أولاد سيدي النش ،وبأن من واجب أفراد عرش سيدي علي الخضوع لهم ،وهذا الأمر كما يوضح ذلك فيصل دراج نتاج الدولة المخفقة،كيف لا وهي المتمثلة في الاستعمار وبعض الموالين لهم الذين اعتمدوا على الحكم المبني على الاستبداد والطغيان،لذا"فالعنف الذي يمارسه المجتمع ضد ذاته صورة أخرى عن القمع الذي تواجه به الدولة.وإذا كان القمع السلطوي تعبيرا عن فشل الدولة عن انتزاع اعتراف المجتمع بها،فإن في العنف المجتمعي،الذي تمثل الحرب الأهلية شكله الأمثل،ما يعبر عن إخفاق السلطة القمعية في بناء مجتمع مدني..."[14]،إذن فالرواية من بدايتها تثير هذه الإشكالية،حيث موت بلخير هو الإعلان عن الزمن الروائي المدجج بالأسئلة،هو المحاكمة غير المعلنة لسلطة القانون السائد أو سلطة السياسة المتمثلة في عرش أولاد النش والقايد عباس متبوعة بالسلطة الدينية التي تضفي شرعية عليها متمثلة في"سي عمار"،وهو التعبير الصريح عن ذلك الوعي الأصيل الذي يرى أن الحقيقة تتبدى في إمكاناتها الأصيلة أمام وعي مزيف يصوغ الحقائق لا كما هي حاضرة وماثلة ،وإنما كما هي رغبة ومصلحة تسيج بالتخييل والتضليل لتهزم روح التمثل الزمني للوعي الأصيل.إن التاريخ على حد تعبير فيصل دراج "غالبا،علم سلطوي وعن السلطة،يدور حول مقولتين سلطويتين،هما الانتصار والهزيمة،ينتج ويعاد إنتاجه في مؤسسات سلطوية،لا تقتصر في الرقابة حاذفة مالا تريد ومبرزة ما تشاء وترغب"[15].ومن ثمة فهذا المنظور المتسلط يضفي إلى تاريخين متضادين،فأما الأول فيرى في الانتصار الحاصل استحقاق ،وأما الثاني فيتحدث عن مهزوم لا يليق به النصر . الآخر في رواية حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر: تمثل "سلافة الرومية" الأرض المنتهكة والمسلوبة حينما ألحق وصفها بالآخر،فهي الزمن المخترق بفعل الذات التي تعيش راهنها باحثة عن رغبة محصلة لا عن زمن تأسيسي لصفة التغيير(الزوج العجوز)،ثم المضيع بفعل خارجي أو زمن دخيل مستعار(المدينة).وحينما فقدت سعادتها بعد موت الخيار الممتزج(الذات/الآخر) أو الريف/المدينة،والمسقط على شخصية "القايد السعيد"،وجدت في خليفة رمز المخلفات القبلية عزاء،وفي ابنها "يوسف الروج" زمنا ممتدا للتمكن الجديد، "لقد ضيعت في دنياها كل شيء إلا يوسف الذي سلته سلا من بين أنياب الأيام،وظلت تراه كوكبا دريا في فضاءاتها القاتمة،وهذا الرجل المترع رجولة،خليفة الذي لم يطأطئ رأسه لذل"[16]،فيوسف هو رمز لحال التمكين في الأرض المغايرة حينما تتعرض الذات للخيانة من قبل الإخوة،من هنا تستعيد الأرض انوجادها عن طريق الصوت المتأقلم أو الحامل لخصائص زمكانية متعددة(الريف والمدينة). ويأخذ اليهود موضع العنصر الدخيل،لكن بصفة الاقتراب الهادئ والحذر،حيث يعمل هذا العنصر على تشتيت الهوية وتخريب الزمن الأصيل أو الصافي تخريبا غير معلن،حتى إذا ما صادف عوامل خارجية مساعدة أظهر نفسه بصفة البديل الذي يبحث عن إمكانه الغائب أو المغيب خارج حدود الذات/الوطن،لذلك فالمؤلف يسرد مقطوعات مختلفة تصف هذا التواجد المهدد للهوية والمخرب للذاكرة من خلال العمل على تهريب الآثار الحاملة لملامح الماضي،والأكثر من ذلك يصف مشهد مشاركتهم الفرنسيين أفراحهم استفزازا للسكان الأصليين."واشترك اليهود في هذه الاحتفالات بشكل لافت،مظهرين ذلك كنيسهم القريب من البلدية،وفي محلاتهم التجارية الكثيرة،خاصة التي تبيع الملابس والحلي،والتي تتوسط المدينة وتختلط مع دكاكين الجزائريين ومساكنهم"[17]. وتصبح "سوزان" مخلفا صوريا للآخر،ذلك المسكوت عنه في اختلاجات الذاكرة،هو ما نخافه من أسئلة يلفها الصمت والأسرار،هو المكبوت الذي سيج بالخطر ،فوعته الذات لكن لم تجرؤ على محاورته وكشف التباساته،...فهناك أسئلة جوهرية تبقى في صميم التاريخ وتبدو وكأنها تنتظر جوابا مؤجلا عن الحقائق المغيبة،حقيقة الأنا والآخر ،هل هي في كل احتمالاتها تنبئ عن حالة خطر وعداوة وتنافر؟.إن سوزان هي الرغبة والتطلع إلى تجاوز حدود الذات للاستفادة من الآخر حينما يظهر بصورة وديعة،هي دعوة للانفتاح والمغامرة ،وإن بدت في ظاهرها علاقة غير شرعية حدودها الخوف والرهبة،إلا أنها تظل حلما مطاردا حيث الذات ترغب في الدخول إلى عوالم الآخر بطريقة هادئة،لكنها تخشى الكشف عن هذه الرغبة لأنها ستتهم بالخيانة:خيانة الوطن خيانة الأرض خيانة التاريخ...،من هنا تصبح"حورية" حلما محتضنا بجنة موعودة تذوب فيها حدود الاختلاف بين الأنا والىخر،الآخر بصورته الحوارية لا بصورته السلطوية القمعية..،فسوزان/الآخر رحل لكن حورية/رغبة التمازج ظلت تعيش في زمن العربي مذكرة إياه بوعد التحقق الثنائي،"ثم لا يجد له عزاء ،إلا ابنتهما حورية،فيغدق عليها من حبه وحنانه ،وأبياته الشعرية متغزلا بها يرددها في كل حين باكيا،وتحاصره زوابع الشوق والهموم فيحمل الصغيرة،ويقود أخاها بلخير ويمشي بعيدا خارج المدينة،طالبا الخلوة،يحلم أن يخرج من الدنيا كلها،وتتدحرج دموعه أحيانا فيمد الطفل بلخير أصابعه الصغيرة يمسحها عن خده بحنان"[18]،لذلك ستظل حورية تكبر أمام ناظريه حاملة وعدا بالتمكن وإن كانت الذات تغيب حقيقتها الكاملة خشية من سلطة التاريخ ومحاكمته وسلطة المجتمع/حمامة ...لتصبح رمزا للأسئلة المقموعة. إذن في خاتمة الدراسة لا يسعنا إلا أن نقول أن عز الدين جلاوجي قد فتح بروايته هذه أسئلة الذات عن موقعها إزاء الآخر المختلف)اليهودي سوزان فرنسا)،إذ لم تكون رواية تسجيل للوقائع بقدر ما كانت بحثا عن إمكان متعدد واختلاق يروم البحث في المسكوت عنه والنبش فيه للإجابة عن الأسئلة المقموعة،وذلك اعتمادا على مرجعية ثنائية :التاريخ والتخييل.إن هذه الرواية هي انفتاح على تعددية الرؤية وبحث عن هوية تحمل خصائص الذات ،لكنها تحاور الآخر وتتقبل اختلافاته بما يخدمها،لذلك فيمكن اعتبارها نقد للتاريخ الذي يعد ضرورة معرفية والتي في حقيقتها مهمة الرواية فقط لأنها تخلخل السائد بانتهاك تاريخ الحقائق أو ما يسمى كذلك. المصادر والمراجع:
المصدر: عز الدين جلاوجي:حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر،دار الروائع للنشر والتوزيع،الجزائر،ط1،2011. المراجع: أ المراجع العربية: 1 دراج (فيصل):الذاكرة القومية في الرواية العربية.مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،ط1،2008. 2 الرواية وتأويل التاريخ.المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت ، ط1،2004.ص262. 3 القصراوي(مها حسن):الزمن في الرواية العربية.المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1،2004 4 النعيمي( أحمد حمد):إيقاع الزمن في الرواية العربية المعاصرة.المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1،2004. ب المراجع المترجمة: 1 باختين(ميخائيل):الخطاب الروائي،ترجمة محمد برادة،رؤية للنشر والتوزيع،القاهرة،ط1،2009 2 باشلار(غاستون):جماليات المكان.ترجمة:غالب هلسا.مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،ط6،2006 3 هينكل (روجر.ب):قراءة الرواية،ترجمة:صلاح رزق،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع،القاهرة،2005. (*) المرجع/ صحيفة الفكر.