تعرف الساحة الحزبية على الورق ازدحاما من حيث العدد، لكنها لا تزال تعاني من وضعية ما يوصف بالاغتراب المزمن بالنسبة للمحيط الاجتماعي والاقتصادي، ومن ثمة لا تكاد تظهر إلا خلال مواعيد انتخابية، بينما يتطلب الوضع الطبيعي أن تكون لها مشاركة فعالة وإيجابية في الدفع بالتحولات، من منطلق تأكيد الارتباط بالمجتمع والإيمان بالشرعية وترجمة نقل الانشغالات، ولِمَ لا الإسهام بالأفكار والتصورات، باعتبار الأحزاب تعد شريكا معنيا بما يجري حولها وليست مجرد أطر تترصد العيوب وتصطاد الأخطاء وتكرّس أسلوب مخالفة كل مبادرة أو الترويج للتشكيك. وإذا كانت هناك أحزاب تحاول الحفاظ على وتيرة نشاط معينة، ولو بالحرص على تنظيم لقاءات دورية لهياكلها القيادية فإن منها من اختفى تماما، وهي تعاني اليوم من أزمة بحث عن الذات، وكأن التطورات الحاصلة أفرغتها من مضمونها، بدليل أن عدة تشكيلات حزبية اهتزّت بسرعة لمجرد ظهور تغيير من الداخل يحمل نقدا ذاتيا والكل يعرف ما انجرّ عما يعرف بالحركات التصحيحية. المبدأ أن الأحزاب تتأسس للوصول إلى السلطة، ولكنها في البلدان العريقة في الممارسة الديمقراطية زيادة على ذلك لا تتأخر عن القيام بما يقع عليها من التزامات تجاه المجموعة الوطنية، بالسهر على المساهمة في دعم ومساندة ما يصب في خانة المصلحة العامة وعدم التردد في تجنيد امتداداتها البشرية في دواليب الأجهزة الإدارية والاقتصادية لتلعب دورها كاملا في التنمية بمفردها الشامل وعدم البقاء في موقف المتفرج، وأحيانا للأسف في موقف المتشفي في حالة تعثر مبادرة أو تأخر مشروع. غير أن هذا المناخ العام الذي يعيد طرح مدى جدوى التوزيع الحزبي الراهن ومناقشة مستقبل الخارطة الحزبية مستقبلا لا يغفل وجود نوع من النشاط الذي يتراوح بين محاولة البعض لإعادة ترتيب البيت الداخلي وقيام البعض الآخر بمراقبة الساحة، وانزلاق البعض الآخر في متاهات جدل بيزنطي عقيم وأحيانا يثير السخرية كونه لا يخدم المجتمع ولا يعنيه في المضمون بقدر ما يعرّي أصحابه أمام الرأي العام. ما إن أنهى حزب جبهة التحرير الوطني مؤتمره التاسع حتى تعالت هنا وهناك أصوات معارضة ومحتجّة، مثلما أوردته مصادر إعلامية من المسيلة والبيض، ما يشير إلى أن الحزب لم يتخلّص من تناقضاته الموروثة على مرّ السنوات التي تركت آثارها في صفوفه، مثلما عكسته تجربة السنوات الماضية على خلفية الأحداث السياسية الكبرى. وإن كانت السفينة قد أبحرت مجددا حاملة على متنها الطاقم القديم الجديد، فإن التداعيات على الصعيد المحلي سوف يحتمل أن تثير انشغال مسؤولها الأول، خاصة بالنسبة للمواعيد القادمة التي تلقي بظلالها، وفي وقت دعا فيه الرئيس الشرفي للحزب في رسالته إلى المؤتمر إلى كسر الأبواب أمام الشباب والجامعيين بغرض استقطابهم، ما يعني في الواقع التنبيه إلى عدم التخوف من دمقرطة الصفوف وإسقاط ثقافة الإقصاء والانتقاء غير الموضوعي من قاموس الحزب، وهو رهان يبدو غير يسير بالنظر للمؤشرات والصراع الخفي بين أجنحةٍ لكلٍّ منها أوراقه وأسلوبه. الأفلان من موقع توليه الأغلبية في المؤسسات الدستورية يواجه مرة أخرى امتحانا لا يهون من حيث الالتزام على كافة المستويات بترجمة الوعود والتمسك بالمواقف المبدئية، مما يضع منتخبيه المحليين وعلى المستوى الوطني على المحك تحت مراقبة المواطنين، خاصة فيما يتعلق بملفات مكافحة الفساد والحرص على قيم الهوية الوطنية، وكذا من حيث النزاهة في خدمة المجتمع ضمن الانخراط في الديناميكية التنموية للدولة التي لا تحكمها ألوان حزبية ضيقة الآفق. على صعيد آخر، من حيث العلاقة المتواترة بين تشكيلات سياسية لم تتعافَ من المرض المزمن للإيديولوجيا، فإنها ما إن تتصالح حتى تعود إلى خصوماتها الإيديولوجية التقليدية، مثلما هو الشأن بالنسبة للأزمة الحادة التي انفجرت بين لويزة حنون أمينة حزب العمال وأبو جرة سلطاني رئيس حركة مجتمع السلم، تذكّر بما كان يجري غداة الانفتاح الديمقراطي، وذلك على خلفية تبادل تصريحات لم يهضمها كل طرف تجاوزت على ما يبدو إطار النقاش البرنامجي، ولا تخدم إطلاقا مصلحة المواطن الذي أنفجر استهجانا لما وصل إليه المستوى الحزبي، في وقت تطرح فيه العولمة بكل أشكالها حتمية بروز نخب سياسية تدرك التحولات، ولا تكتفي بمجرد التموقع في خنادق إيديولوجية، إذ لا عيب في أن يعلن طرف إعادة صياغة خياراته ولا يسوق موقفا ويأتي بغيره. وبالطبع مثل هذا السلوك الذي يحمل نبرة الحدة لا يشجع على إنشاء مساحة حزبية محترمة وجادة، بل تكون للأزمة آثار سلبية على قواعد التشكيلتين، في وقت تشاع فيه روح التصالح وتنمية قيم التسامح بما يشجع على تمهيد الدرب لإنهاء كل ما من شأنه أن يغذي بقايا الأحقاد الإيديولوجية والتنافر، الأمر الذي ينعكس في كافة الأحوال على ديناميكية الممجتمع الذي لا يحتمل من منظور شامل مزيدا من الجدل البيزنطي. المنظومة الحزبية تبدو متأخرة بالنظر لمدى المشوار الذي قطعه المجتمع، وبالإمكان أن تستوعب الساحة ألوانا أخرى ضمن الإطار الدستوري والروح الإيجابية للقانون، وبالإمكان أيضا أن تختفي أحزاب أخرى لم تثبت قوتها في الارتباط بالمجتمع ولم تتوصل إلى تجسيد التداول في أطرها النظامية، ما يتعارض مع مبدأ الديمقراطية نفسه.