كرست الأزمة الداخلية لجبهة التحرير الوطني عشية تشريعيات ماي القادم قاعدة تتكرر مع كل حدث سياسي هام في الجزائر مفادها أن الحزب العتيد أول من يتأثر بأي هزة في السلطة أوحتى موعد انتخابي لكن بالعودة إلى المحطات والأزمات التي مر بها الأفلان على الأقل منذ فتح التعددية الحزبية عام 1989 يمكن الوصول إلى خلاصة مفادها أن التغيير في توجهات الجبهة أو قياداتها لم تصنعه يوما مؤسسات الحزب ومناضلوه بطريقة "خالصة". يواجه الأمين العام الحالي للأفلان موجة احتجاج كبيرة ليس في قواعد الحزب فقط ولكن هذه المرة وصلت حد المطالبة برأسه من قبل قيادات في الحزب متذمرة من طريقة إعداد قوائم الجبهة لدخول سباق للتشريعيات، وبغض النظر عن الرأي القائل بأن القضية لا تعدو كونها "فورة" ستمر بمجرد انطلاق الحملة الانتخابية وأن مسألة بقاء بلخادم على رأس الحزب العتيد لم تكن يوما بيد هياكل الحزب فإن القضية تكشف مرة أخرى أن الحزب الواحد سابقا كان وسيبقى رهينة للتحولات السياسية في البلاد ويكفي الرجوع إلى الوراء قليلا وبالضبط لبداية التسعينات التي شهدت فصل الحزب عن الدولة ودخول البلاد في تعددية حزبية للوقوف على هذه القاعدة.
أحداث اكتوبر تعصف بمساعدية وكان الحزب الواحد سابقا أول مؤسسة سياسية تأثرت بانفجار الاوضاع في أكتوبر 1988 وإسراع السلطة أنذاك إلى إقرار إصلاحات سياسية لاحتواء الشارع، حيث تقرر فتح المجال للتعددية السياسية في دستور فيفري 1989 ليعقد بعدها حزب جبهة التحرير الوطني الذي خلع عباءة "حزب الدولة" مؤتمره السادس مطلع عام 1990 وكانت المرحلة تتطلب نفسا جديدا وفكرا قياديا جديدا أكثر انفتاحا على المنافسة ليكون الخيار من قبل الرئيس الإسبق الشاذلي بن جديد على المرحوم عبد الحميد مهري الذي كان سفيرا في الرباط لقيادة الحزب في مرحلة التعددية خلفا للشريف مساعدية الذي تربع على رأس الحزب لقرابة عشرية كاملة بصفته الرجل الثاني بعد رئيس الجمهورية، لكنه اختفى عن الواجهة السياسية مباشرة بعد هذا التغيير الجذري الذي عرفته الجبهة والساحة السياسية بصفة عامة.
نهج المعارضة "يطيح" بمهري وواجه المرحوم مهري الذي وصل القيادة في مرحلة حرجة أصعب امتحان عاشه الحزب العتيد في تاريخه بعد اجتياح الفيس المحل لمحيات جوان 1990 والدور الأول من الانتخابات التشريعية لعام 1991 ثم استقالة الشاذلي بن جديد ووقف المسار الانتخابي . وكانت هذه المحطة مرحلة تحول لم يشهدها الأفلان في تاريخه أين نأى بنفسه تماما عن خط السلطة وحاول من يوصف ب"حكيم الجزائر" صناعة خط مستقل للجبهة عن توجهات صانعي القرار بدء بمعارضة قرار وقف المسار الإنتخابي ووصولا للمشاركة في اجتماع "سانتيجيدو" في جانفي 1995 والذي كان بمثابة نهاية رحلة قيادة المرحوم مهري للحزب العتيد حيث جعل منه أبرز أحزاب المعارضة في الشطر الأول من عشرية التسعينيات. واستسلم الأمين العام للإفلان لرغبة السلطة في استرجاع الحزب العتيد التي يقول المراقبون إنها المكان الطبيعي له وبعد وصول الرئيس السابق اليامين زروال للسطلة باشر قياديون في الجبهة يتقدمهم عبد القادر حجار وبوعلام بن حمودة مخططا لإزاحة مهري من القيادة وكان لهم ذلك عام 1996 عبر مايسمى ب"المؤامرة العلمية" التي قال عنها المرحوم مهري "إنهم يريدون الجبهة وليس مهري وقد كان لهم ما أرادوا".
بن حمودة يعيد الآفلان إلى حضنه الطبيعي وكان وصول بوعلام بن حمودة إلى قيادة الأفلان بمثابة عودة الحزب العتيد إلى وضعه الطبيعي، وهو مسايرة التوجهات السياسية التي تقررت في دواليب السلطة آنذاك، إذ أنه رغم تراجع مكانة الجبهة في اول انتخابات تشريعية عام 1997 باكتساح الأرندي للبرلمان - بعد أسابيع من تأسيسه - لم تتزعزع القيادة الجديدة وواصل بن حمودة قيادة الحزب بعد وصول الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة للحكم عام 1999 كمرشح للإجماع الوطني غير أن أحد مهندسي "المؤامرة العلمية" شكر على مهمته بعد الرئاسيات بأشهر اي عام 2000 لأن المرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد كانت تتطلب تسليم المشعل لرجل "له قبول في القمة" وهو ماحدث بالفعل عندما تولى علي بن فليس الأمانة العامة للأفلان بعد أن مر بإدارة الحملة الإنتخابية للرئيس بوتفليقة وكذا إدارة ديوانه.
الطموح غير المحسوب" يحرق بن فليس" لكن مرشح الانتخابات الرئاسية عام 2004 بخلفية طموحه السياسي غير المحسوب قام ب" تخييط" المؤتمر الثامن للحزب تحت شعار "التشبيب" وبدا بإعداد العدة لخلافة من أوصله إلى دفة قيادة الحزب العتيد وحقق أول انتصار انتخابي في 2002 بإعادة الجبهة إلى قيادة البرلمان ليفصح بعدها عن طموحه السياسي عشية رئاسيات 2004 عندما أعلن نفسه مرشحا باسم الأفلان للانتخابات الرئاسية. وكانت محاولة بن فليس في شق عصا الطاعة عن قائده السياسي "انتحارا سياسيا" رغم أنها زجت بالجبهة في أزمة عميقة قادتها لأول مرة إلى أروقة العدالة ليتلقى ابن باتنة في النهاية ضربة موجعة كانت بنجاح التصحيحيين في استعادة الحزب وفشله هو في تخطي عتبة 6 بالمائة من الأصوات في رئاسيات 2004 ليكون ضحية طموح سياسي غير محسوب احرق به كل أوراقه واختفى عن الساحة نهائيا.
"الممثل الشخصي" مطمئن على مكانته وكان تولي بلخادم الذي يعد أحد رجال ثقة الرئيس بوتفليقة لزمام القيادة في الحزب العتيد بداية من الحركة التصحيحية ووصولا إلى الأمانة العامة من أجل إعادة ترتيب أوراق الجبهة التي عرفت انشطارا كبيرا بفعل ماخلفته "إصلاحات بن فليس" الذي بنى هياكل تحت عنوان الولاء، لذلك فقد استهلك وزير الدولة إلى اليوم ما يقارب الست سنوات في إعادة ترتيب البيت بداية من المؤتمر الثامن التصحيحي عام 2005 الذي زكى بوتفليقة رئيسا شرفيا للحزب ثم المؤتمر التاسع شهر مارس 2010 وهي سنوات لم تخل من هزات واحتجاجات تصاحب كل موعد انتخابي وحتى انتخابات الهياكل والمؤتمرات، لكن في كل مرة يتجاوز بلخادم هذه الصدمات، ليس لأنه يسطر تماما على زمام الأمور حسب المراقبين، ولكن لأن القاعدة التي تحكم مسار الأفلان واضحة كما تكشف التجارب السابقة مع الأمناء العامين للحزب، ومفادها أن قرار التغيير لم يكن يوما قرارا "أفلانيا خالصا".