لم يدم تربّع جمال ولد عباس على عرش الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني، سوى سنتين وثلاثة أسابيع فقط، قبل أن يرمي المنشفة في قرار مفاجئ، لا يزال يلفه الكثير من الغموض. المبرر الرسمي لهذه الاستقالة وفق ما أوردته وكالة الأنباء الجزائرية، مفاده أن الرجل تعرض لأزمة قلبية استدعت تحوله إلى عطلة طويلة الأمد، غير أن مصدرا عليما ذهب إلى القول غير ذلك، وهو أن ولد عباس دُفع إلى الاستقالة وخرج من الباب الضيق. ولم يأت ولد عباس إلى الأمانة العامة للحزب العتيد عبر الصندوق في مؤتمر على غرار الكثير ممن سبقوه إلى هذا المنصب، وإنما جاء في ظرف استثنائي، وذلك في أعقاب استقالة الأمين العام الأسبق، عمار سعداني، في 22 أكتوبر من عام 2016. وطيلة السنتين اللتين قضاهما أمينا عاما للحزب العتيد، كان ضعيفا ومحاطا بعناية أطراف عليا، ولو تجرأ على عقد دورة للجنة المركزية وفق ما ينص عليه النظام الداخلي لهذه الهيئة (مرة واحدة على الأقل كل سنة)، لسحبت منه الثقة، لكنه قضى أكثر من سنتين ولم يدع إلى عقدها. ومنذ ذلك التاريخ، لم تكن الكثير من المواقف والقرارات وحتى التصريحات التي صدرت عن ولد عباس، محل ترحيب من قبل إطارات الحزب ومناضليه، وحتى من وضعه على رأس الحزب، بل تحول الرجل في نظر الرأي العام وفي شبكات التواصل الاجتماعي إلى مصدر تندر بسبب تصريحاته وخرجاته غير المحسوبة. ومما يذكره الجزائريون عن ولد عباس من تصريحات، قوله إنه درس مع المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، كما قال في تصريح آخر إن الجزائر أفضل من السويد، وهو التصريح الذي ردت عليه الحكومة السويدية في حينه. كما قال ولد عباس أيضا إنه اخترع جهازا طبيا وأنه يحوز على براءة هذا الاختراع العالمي، وقدم نفسه على أنه محكوم عليه بالإعدام، غير أن جمعية المحكوم عليهم بالإعدام نفت أن يكون ولد عباس أحد المتمتعين بهذا الشرف. وفضلا عن كل ذلك، فالخطاب السياسي الذي كان يقدمه الأمين العام المستقيل، لا يرقى لأن يكون في مستوى التشكيلة السياسية الأولى والأكثر تمثيلا في البلاد، فالمتابعون يجمعون على أن خطابه ضحل، سطحي وغير قادر على مقارعة خصومه السياسيين، في وقت يستعد فيه الحزب لخوض غمار أهم استحقاق انتخابي في البلاد على بعد أقل من ستة أشهر، وهو اختيار رئيس جديد للبلاد. كل هذه المعطيات أو بعضها تقود إلى الجزم بأن ولد عباس أقل من المنصب الذي أوكل إليه أو لم يملأه، كما يقول الجزائريون، غير أن ذلك قد لا يكون من بين الأسباب التي تقف خلف دفع الرجل إلى التنحي، طالما أن هناك أخطاء سياسية جسيمة أخرى يرجح أن ولد عباس سقط فيها، بينها تدشينه لحملة غير رسمية بشأن "العهدة الخامسة"، قبل أن يتوقف عن التسويق لها، موازاة مع إعلانه عن شروع الحزب عبر الولايات في إحصاء انجازات الرئيس طوال ال19 سنة الماضية. ومن بين هذه الأخطاء أيضا، تفجيره أزمة في البرلمان، بدعوته "صديقه" السعيد بوحجة إلى الاستقالة من رئاسة المجلس الشعبي الوطني، إلى غاية غلق النواب للبرلمان بالسلاسل ومنع بوحجة من دخول مكتبه، وإعلان حالة الشغور، قبل انتخاب بوشارب خلفا له. يضاف إلى ذلك، اصطفاف ولد عباس مؤخرا إلى جانب الغريم في التجمع الوطني الديمقراطي، أحمد أويحيى، في الصراع الذي نشب بينه وبين وزير العدل حافظ الأختام الطيب لوح، بالرغم من أن هذا الأخير إطار في الحزب العتيد وأحد أقرب المقربين من قصر المرادية الذي أوصل ولد عباس إلى عرش الأفلان قبل نحو سنتين، وهو خطأ استرتيجي جسيم ربما كان القطرة التي أفاضت الكأس في علاقة ولد عباس بالرئاسة. فقد اختار ولد عباس تقديم الدعم للوزير الأول عبر جريدة لا تكنّ ودا لمعسكر الرئيس، عندما تعرض لهجوم ناري من قبل لوح من وهران على خلفية قرار أويحيى بسجن الآلاف من الإطارات حين كان رئيسا للحكومة في عهد الرئيس السابق اليمين زروال…