مرّة أخرى، صنع الجزائريون، الاستثناء، والتميّز، و"معجزة" جديدة من المعجزات التي صنعها جيل بعد جيل، وها هم الجزائريون بمختلف فئاتهم، مواطنون بسطاء، طلبة، إعلاميون، سياسيون، موظفون، مجاهدون، فنانون، وغيرهم من الشرائح، حتى النساء والأطفال، يثبتون إلى ما لا نهاية، بأنهم رضعوا حليب "السلم" حتى الفطام، وبالتالي لا يُمكنهم أبدا إلاّ أن يُنتجوا السلم، فسبحان من علاك، سبحان من جلاك، أيها السلم تجلى. لا مزايدة بعد الآن، من تلك البلدان "الديمقراطية" الكبرى، التي تدّعي زورا وبهتانا، بأنها مهد ولحد الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، فها هي مظاهرات بالآلاف المؤلفة، تؤلف قلوب الجزائريين، حول مطلب واحد، وبصوت واحد ونغمة واحدة، هدفها تكريس هذه الديمقراطية، لكن بطرق سلمية، أبهرت كل العالم، في مشاهد لا يصنعها إلاّ الجزائريون! خسرت الأطراف التي كانت تراهن على "سيناريو سوريا" و"سيناريو ليبيا"، مثلما خسئت الأطراف التي أرادت "أفغنة" الجزائر بداية التسعينيات، وخسرت الأطراف التي خططت خلال سنوات المأساة الوطنية لإغراق الجزائر في مستنقع الإرهاب والدماء والدموع! الجزائر هي الجزائر، لا شرقية ولا غربية.. لا شامية ولا بغدادية، لا سورية ولا ليبية، لا مصرية ولا تونسية.. الجزائر هي من تصنع في كلّ مرّة تاريخها وقرارها ومصيرها، فقد عرفت "ربيعها" قبل نحو 30 سنة، من هبوب رياح ما سمّي "الربيع العربي"، وكان للجزائريين أن قرّروا في أحداث 5 أكتوبر 1988، فاستجاب لهم القدر! لأوّل مرّة، يلتقي المواطنون مع تيارات سياسية محسوبة أو مصنفة ضمن خانة "الوطنيين" و"الإسلاميين" و"العلمانيين" و"الديمقراطيين" والشيوعيين"، حيث تناسى جميع هؤلاء حساباتهم القديمة والجديدة، ووضعوا جانبا أحقادهم على بعضهم البعض، وأجلوا إيديولوجياتهم وولاءاتهم وانتماءاتهم، واصطفوا في مسيرات حاشدة، ترفع شعارات ونداءات متطابقة، تلتقي عند مطلب "لا للعهدة الخامسة".. "نعم للتغيير وغد أفضل". سلمية المظاهرات "السياسية"، صنعها أيضا جزائريون يعملون في الأسلاك الأمنية، فقد استفاق المتربّصون الأجانب، على لحمة متميّزة وفريدة وغير قابلة للاستنساخ والتكرار، بين المواطنين وإخوانهم في أجهزة الأمن، فبدل ما كانت تنتظره "مخابر دولية" حاقدة، من مواجهات واشتباكات، والعياذ بالله، بين هؤلاء وأولئك، أذهلتهم وأخرستهم الورود وقارورات الماء والعناق، الموزّع بين أبناء الجزائر الواحدة التي لا تقبل التقسيم والشتات. الآن، بعد الذي حصل، في "جمعتين شعبيتين"، على أصحاب الحلّ والربط، فهم الرسالة، فهما صحيحا بكلّ وعي ومسؤولية وحكمة ورزانة، وعلى مختلف الأطراف، في الموالاة والمعارضة، تجنّب محاولات الاصطياد في المياه العكرة، أو محاولة ركوب الموجة أو استغلال الظرف والمطالب والأهداف، فالكلمة كانت كلمة الشعب، والقرار قراره، والنصر لن يكون سوى منه وبه وإليه.