صنع الجزائريون ربيعهم على طريقتهم الخاصة، وأنجزوا »ثورتهم« من خلال انتخابات شفافة ونزيهة بشهادة الداخل والخارج، انتخابات جدّد من خلالها المواطنون ثقتهم في حزب جبهة التحرير الوطني رغبة منهم في الاستمرار على نهج التغيير السلمي والبناء الوطني وبعيدا عن »الثورات العربية« التي تأكل الأخضر واليابس في أكثر من قطر عربي. جدّد الجزائريون بكل حرية وفي ظل استحقاق شهد الجميع على نزاهته وشفافيته ثقتهم في الأفلان، وقرروا بكل سيادة بأن تظل الجبهة تشكل قوة توازن وعامل وحدة الجزائريين، وكان ردهم صريحا على كل تلك الأصوات التي حاولت الإساءة إلى الحزب العتيد، من خلال تحميله وزر الأزمات التي مرت بها الجزائر، أو من خلال الدعوة إلى شطبه من الحياة السياسية بدعوى أنه ملك مشترك لكل الجزائريين، فهل بقي لكل هؤلاء ما يقولونه بعدما أصدر الشعب الجزائري حكمه الأخير؟ إن حصول الحزب العتيد على 220 مقعدا حسب النتائج التي أعلن عنها وزير الداخلية، يعكس حقيقة أن السواد الأعظم من الجزائريين لا يزالون متشبثين بهذا الحزب، وأن كل ما قيل في بعض الصالونات وبعض الفضائيات، هو محض افتراء، وأن التغيير المنشود سيكون بمشاركة الجبهة التي صنعت مجد الجزائر أثناء ثورة التحرير وخلال مرحلة البناء ومرحلة إعادة الاعتبار للدولة وتجسيد المصالحة الوطنية، ولم يكن تصويتهم إلا انطلاقا من قناعة راسخة بأنه لا مجال للحديث عن ربيع جزائري خالص من دون جبهة التحرير، والكل يتذكر حال الجزائر في منتصف تسعينيات القرن الماضي، لما أقصيت الجبهة من الحياة السياسية وتركت مكانها لطبقة سياسية مفبركة وتطرفات عمقت الهوة بين الجزائريين، وساهمت في إطالة عمر المأساة، ولم تتمكن البلاد من الخروج من محنتها إلا لما عادت الأمور إلى نصابها وكرست الوسطية والمصالحة الوطنية كخيار لإخراج البلاد من محنتها المريرة. لقد دخل الأفلان المنافسة ببرنامج واعد وواقعي، وبخطاب متوازن بعيدا عن التجاذبات الإيديولوجية والتطرفات، وبعيدا عن استهداف أي طرف، وبرهن من خلال هذا الخطاب، بأنه حزب جامع بين الجزائريين، خلافا لبعض المنافسين له في الساحة سواء الأرندي الذي طور زعيمه أحمد أويحيى خطابا عنيفا اتجاه الإسلاميين، أو التيار الإسلامي خاصة التكتل الجزائر الخضراء الذي ركز في خطابه على استفزاز خصومه، وادعاء فوز عريض قبل الأوان، والحديث باسم التغيير وباسم الربيع العربي وكأنّه لا ربيع دون هذا التيار الذي توهم بأنه قد حصد الأغلبية، وألغى من مخيلته الشعب الذي ظهر وكأنه مسلوب الإرادة أو مجبر على اختيار هذا التيار وإلا أغرق في حمام الدم باسم التغيير وباسم »الثورة«. ولابد بأن نذكر بأن التشريعيات جعلت أمين عام الأفلان عبد العزيز بلخادم يكسب الرهان أمام خصومه من داخل الحزب نفسه، فالذين راهنوا على إزاحته من منصبه كانوا يترقبون انكسارا للحزب أمام خصومه، لكن ذلك لم يحصل، وعلى العكس من ذلك حقق الحزب العتيد كل أهدافه، وتمكن من قيادة سفينة الجزائر نحو التغيير الحقيقي، وهناك مسألة أخرى لها علاقة بقوائم حزب جبهة التحرير الوطني، ويجب الاعتراف للأمين العام عبد العزيز بلخادم بجرأته في التغيير من خلال قطع الطريق أمام الأسماء القديمة، وإتاحة الفرصة لمترشحين جدد لهم كفاءة وتمرس وقدرة على إقناع المواطنين، وعليه ولم يتبق أمام أبناء الجبهة من الغاضبين على قوائم الترشيح إلا العودة إلى حضن حزبهم والدفاع عن قناعاتهم داخل بيت الجبهة وليس من خارجه لأن الجبهة تسع كل أبنائها. نجح الجزائريون إذن في وضع أسس ربيعهم المتميز الذي يختلف عن ربيع جميع العرب، ونجحوا في تفويت الفرصة على كل الذين راهنوا على انتخابات بلا ناخبين، أو نتائج تلبس البلاد ثوب الحداد، أو تزوير يجر البلاد برمتها إلى مستنقع العنف الأعمى، ويمس بمصداقية العملية الانتخابية داخليا وحتى خارجيا، ولما نتحدث عن الربيع على الطريقة الجزائرية فنقصد بالتأكيد بأن الانتخابات، وبغض النظر عن القوى التي حققت الفوز فيها، هي انتصار للجزائر، ومكسب ثمين لكل الجزائريين، ومن تتبع كل تلك الحملة التي سبقت التشريعيات الأخيرة يدرك مغزى هذا الكلام ووزنه الحقيقي، فالانتخابات الأخيرة لم تكن كسابقتها كما أكد أكثر من مرة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، ورهاناتها كثيرة ومتعددة، فهي لا تنتهي عند انتخاب نواب عن الشعب وملأ قبة البرلمان بمنتخبين، فالمسألة ابعد من كل ذلك، لأن العملية الانتخابية طرحت هذه المرة كأداة من أدوات تكريس الإصلاح السياسي والدستوري بطريقة سلمية، تمكن الجزائر من الانتقال السلس نحو مرحلة تعم فيها الديمقراطية وتتوسع فيها رقعة الحريات، ومن ثمة فهي وسيلة لتجنيب البلاد الدخول في متاهات ما يسمى بالربيع العربي الذي يعني بالعنف بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويعني المستقبل الغامض الذي قد يعني انتهاء الجزائر كدولة أو دخولها مرحلة التشتت على طريقة ما هو حاصل في بعض بلدان »الربيع العربي« على غرار الجارة ليبيا. سيسجل التاريخ بأن تشريعيات 2012 باعتبارها ثورة على الطريقة الجزائرية، وقد كان الشرف لكل من ساهم فيها سواء شارك بشكل مباشر أو غير مباشر في العرس الانتخابي تجنيب البلاد ويلات السيناريوهات السوداوية التي أعدت لها، ويعد ذلك بحد ذاته إنجاز، ومصدر شرعية حقيقية للبرلمان المقبل الذي ينتظر منه بالدرجة الأولى استكمال مسار الإصلاح السياسي والدستوري، والذي تتبع الخطاب التاريخي الذي ألقاه رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة من عاصمة الهضاب العليا، سطيف بمناسبة تخليد الذكرى ال 67 لمجازر الثامن ماي 45، يصل حتما إلى قناعة بأن التغيير في الجزائر حقيقة ومشروع وليس مجرد كلام للاستهلاك أو للالتفاف على تطلعات المواطنين، وبقى أن نشير بأن كل تلك الانفعالات الجانبية لقوى تسمي نفسها إسلامية، أو تحاول احتكار الديمقراطية والإصلاح والتغيير، والتي تلمح إلى بحصول تزوير، وتلوح بالذهاب نحو خيارات أخرى لفرض نفسها على الشعب الجزائري، فلن تفيد في أي شيء لأن القرار هو بيد الجزائريين وليس بيد تلك القوى التي وعدتهم بتسلم الحكم في الجزائر رغم انف الجزائريين، وإلا أغرقت البلاد في طوفان من الدماء والدموع تحت عنوان »الثورة« و»الربيع«.