تعتبر منطقة آزفون (160 كلم شرق العاصمة) التي ينتمي إليها الشيخ محند واعمر، خزانا لرجالات الإصلاح والسياسة والثقافة. وإذا كانت الأسماء اللامعة في عالم السينما والمسرح والموسيقى والفنون الجميلة والغناء المنتمية إلى هذه المنطقة معروفة طبقت شهرتها الآفاق بحكم تواجدها في فضاءات الإعلام المختلفة، فإن مثقفي القلم والناشطين في مجالي الإصلاح والسياسة عن طريق الأعمال الجوارية قد ظلوا بعيدا عن الأضواء، الأمر الذي أدى إلى تهميش ذكراهم وهم صانعو الحدث في زمانهم. لذلك فإن واجب الوفاء لأفراد ذلك الرعيل الذي صنع المعجزة يفرض علينا أن نحافظ على الأقل على ذكراهم، وأن نجعل منها مرجعية للأجيال حتى تدرك أن السماء لم تمطر الحرية والسيادة الوطنية، وأن السلف الماضي قد كدّ وتعب، ولم يدخر أي جهد من أجل الوطن وسيادة أهله وكرامتهم وعزتهم، ومن هؤلاء الشيخ صادو محمد المدعو الشيخ محند واعمر. ولد الشيخ محند واعمر في قرية شرفة أوزفون سنة 1890م، وهو ابن الشيخ أعمر أمزيان قطب الصوفية في المنطقة، وبلغديد فاطمة، تعلم مبادئ القراءة والكتابة في مسقط رأسه ثم أكمل دراسته بزاوية سيدي منصور بعرش آث جناد (ولاية تيزي وزو) التي كانت منارة للعلم والتقوى وراعية للمجتمع. وحسب المعلومات المستقاة من السيد رحماني الطاهر فقد درس أيضا بزاوية طولقه قرب بسكرة بالجنوب الجزائري، أما السيد مرسلي محمد فقد ذكر أنه درس أيضا بمدينة فاس المغربية. وكان والده المتفقه في شؤون الدين قد وقف حجر عثرة أمام قانون التجنيد الإجباري في مطلع القرن العشرين حينما سعت فرنسا إلى استصدار فتوى من علماء المنطقة استدعتهم إلى زاوية سيدي منصور تجيز للمسلم التجنيد في صفوف جيوش فرنسا. والجدير بالذكر، أن أسلافه قد تلقوا ضربة قاصمة حين قامت فرنسا بمصادرة أراضي الأهالي وتأسيس مستوطنة للفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين أطلق عليها اسم (port gueydon) تكريما للأميرال الفرنسي الذي صار حاكما عاما للجزائر سنة 1871م، وتم بناؤها عن طريق السخرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هذا وقد تضاعف عدد السكان الأوروبيين فشيدوا كنيسة ومدرسة وحانة في قلب مستوطنة آزفون، وهو الأمر الذي اعتبره السكان مصدر قلق لهم، لما لحقهم من أضرار جراء تداعيات هذا التواجد الأوروبي، وذكر الكاتب الفرنسي (ألان ماهي Alain mahe) في كتابه الموسوم: (تاريخ القبائل الكبرى Histoire de la grande Kabylie) أن بلدية آزفون المختلطة كانت سنة 1936م تضم (30720) نسمة بمعدل 75/ ن في كلم2، وبها ما يقل عن (10) مدارس، وبلغ عدد المهاجرين إلى فرنسا حوالي (1200) شخص أي حوالي (6.15٪) من مجموع الذكور البالغين سن العمل. ولم يتجنس منهم إلا (19) شخصا. ورغم تصدي رجال الدين لهذا المسخ بحزم كبير، فإن الاحتكاك اليومي بالأوروبيين بحكم الضرورة الاجتماعية قد أثر سلبا على الجزائريين، لذلك كان لزاما أن تتضافر جهود أهل المنطقة بغيرهم من المصلحين في باقي الوطن، وفي هذا السياق برزت جهود الشيخ محند واعمر في ربط الصلة مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولا شك أن الشيخ المصلح باعزيز بن عمر وهو من منطقة آزفون قد ساهم في دعم هذا التواصل، وهكذا استقبلت منطقة آزفون الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1930م في إطار زيارته لمنطقة القبائل، وكان الشيخ محند واعمر وراء تنظيم هذه الزيارة، ونظرا للرقابة الشديدة المفروضة على الشيخ عبد الحميد بن باديس فإنه لم يتمكن من إلقاء دروسه في مساجد قرى المنطقة التي يحتمل أن يكون قد زار بعضها ولو سرّا، كقرى عشوبة وآث سيدي يحي وشرفة أوزفون وآث حماد المشهورة بمدارسها القرآنية، ومما يرجح هذا الاحتمال أن بعض شيوخ قرية عشوبة قد أكدوا مجيء شخصية دينية كبيرة إليها في الثلاثينيات من القرن العشرين استضافها الشيخ محمد ولحاج المنضوي تحت لواء الحركة الإصلاحية، الذي دأب على التواصل مع قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكذا مع شخصيات إسلامية ذائعة الصيت كشكيب أرسلان. وبقدر ما كانت هذه الزيارة دعما للحركة الإصلاحية، فإن الإدارة الفرنسية قد نظرت إليها بعين السخط، الأمر الذي جعلها تضع الشيخ محند واعمر تحت رقابتها، وتحاصره بسلسلة من المضايقات أرغمته على بيع منزل له في بلدة آزفون التي منع من دخولها لبعض الوقت. إن ما ميّز حياة الشيخ محند واعمر أن نضاله قد شمل مجالي الإصلاح الاجتماعي بقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والنضال السياسي بقيادة حزب الشعب الجزائري، لذلك فإن مساره النضالي قد شكل ظاهرة فريدة تستحق التنويه ووقفة التقدير، ومن باب الإنصاف أن نشير إلى الأسماء الأخرى وإن كانت قليلة التي انضوت في إطار هذا المسار النضالي بالمنطقة، منها الشيخ مزيان أمسون (من قرية أمسونن، عرش افليسن البحرية بثيقزرت) وأزرقي آيت صديق (من قرية ابسكرين، عرش آث جناد). والجدير بالذكر أن تواجد أهل منطقة آزفون بكثافة في مدينة الجزائر، قد ساعد على نقل أفكار حزب الشعب الجزائري إلى قرى المنطقة، لذلك تكونت خلية للحزب في وقت مبكر أشرف على تأطيرها المناضلان الكبيران كريم بلقاسم وأعمر أوعمران. وعندما زار مصالي الحاج منطقة آزفون وألقى خطابا بسوق أغريب ناث جناد سنة 1946م، أسند مسؤولية الحزب إلى الشيخ محند واعمر الذي فتح عقب ذلك مكتبا للحزب ببلدة آزفون، وتشكلت هذه الخلية من مناضلين عديدين ينتمون إلى عدة قرى في أعراش آث جناد، وافليسن لبحار، آث أفليق وزرخفاوه، وآث شافع، أشهرها قرى ابسكرين واغيل مهني وعشوبة وشرفة أوزفون واحمزيون وثيفزوين وأث سيدي يحي وأث يلول. هذا ولم تكتف الإدارة الفرنسية بمحاولات غلق مكتب حزب الشعب فقط، بل حاولت أيضا نفي الشيخ محند واعمر من منطقة آزفون، والملفت للانتباه حسب المعلومات المتداولة في أوساط المثقفين والمهتمين بالشؤون التاريخية للمنطقة أن (الباشاغا) آيت علي محند أوبلعيد (من عرش آث واقنون) قد ساعده بطريقته الخاصة في صراعه مع الإدارة الفرنسية، وكللت جهوده بإسقاط قرار النفي، ولم يستغرب الباحث العصامي السيد محالة لونيس موقف هذا الباشاغا المتميز باحترامه لرجال الدين، ذاكرا كمثال على ذلك أنه حمى أيضا الشيخ البشير آيت صديق (إمام قرية أبيزار) المشهود له بوطنيته المتأججة، من الإدارة الفرنسية. ركز الشيخ محند واعمر جهوده النضالية من أجل كسب رجال الدين إلى صف الحركة الوطنية لما لهم من تأثير قوي في صناعة الرأي العام وتوجيه العوام، الذين يعتبرون الزوايا مرجعية للمجتمع ومنارات تنير دروب الحياة، وفي هذا السياق ركز جهوده على زاوية سيدي منصور ذات التأثير الواسع في منطقة آزفون. ويبدو أن ما أسفرت عنه ثورة 1871م من نتائج وخيمة على الزوايا التي كانت وراء هذه الثورة، قد جعل أسرة آل يوسف المسيرة للزاوية تحتاط وتلتزم الحياد السياسي، وفي الحقيقة فإن ما بدر منها من محاربة الإصلاحيين وفكرهم النهضوي قد أفقد مصداقية حيادها، ولعل أبرز مثال تجلى فيه انزلاقها هو حرمان طلبتها من كتب ومجلات وصحف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي منعت تداولها في الزاوية، وفضلا عن ذلك فقد ضايقت إلى حد الإزعاج الأستاذ العلامة الأزهري أرزقي شرفاوي الذي عاد إلى الجزائر في مطلع الثلاثينيات، وقد اختار التدريس في عمق منطقة الزواوة التي أطبق عليها الجهل، بدل الاستقرار في المدينة. لذلك لم يفلح الشيخ محند واعمر في إدخال الفكر الإصلاحي إلى هذه الزاوية، ورغم ذلك فقد ظل يعاملها معاملة سلسة ومرنة لما لها من فضل في صيانة الشخصية الإسلامية لأهل المنطقة. وبالنظر إلى شدة المضايقة الفرنسية على نشاطه السياسي، فقد تحايل عليها بالتركيز على العمل الجواري مستغلا مكانته الاجتماعية باعتباره رجل دين مطلوب في مختلف المناسبات الاجتماعية. ومما يؤكد سمو مكانة الشيخ محند واعمر في صفوف حزب الشعب الجزائري بمنطقة القبائل، أنه اختير ليكون عضوا في وفد المصالحة الذي تمخض عن اجتماع عزازقة المنعقد في شهر جويلية سنة 1949م إلى جنب العضوين الآخرين وهما عبد القادر آيت سيدي عيسى، ومسعود أولعماره إثر تصدع صفوف الحزب بفعل ما سمي بالأزمة البربرية، الناجمة عن إقصاء البعد الأمازيغي في المذكرة السياسية التي أعدتها قيادة الحزب لإرسالها إلى هيئة الأممالمتحدة، وحاول هذا الوفد احتواء الأزمة برفع التقرير المنبثق عن الاجتماع المذكور إلى رئيس الحزب مصالي الحاج. وذكر الكاتب علي قنون في كتابه الموسوم (تاريخ الحركة البربرية(chronologie du mouvement berbère أن الرئيس قد استقبل فعلا هذا الوفد واستحسن هذه المبادرة ووعد أعضاءه باستدعاء اللجنة المركزية لدراسة هذه القضية بحضورهم، علما أن جماعة المناضل واعلي بناي المتهمة بإثارة فتنة الانقسام في الحزب قد فصلت عن الحزب، وفي الحقيقة فإن ما صرح به مصالي الحاج للوفد المذكور لم يتجاوز حدود لباقة الاستقبال. وعندما اندلعت ثورة نوفمبر 1954م احتضنها الشيخ محند واعمر، وسقط ابنه الشيخ علي شهيدا في ميدان الشرف. وبعد الاستقلال عاد إلى مهمته الإصلاحية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرأب الصدع بين المتخاصمين ويزرع الفضيلة في المجتمع، إلى أن انتقل إلى جوار ربه يوم 13جويلية سنة 1974. وتقديرا لدوره الإصلاحي في منطقة آزفون فقد سمي مسجد المدينة باسمه، علما أنه كان رئيسا للجنة المكلفة بإنجازه.