عبد العالي رزاقي استقالة حكومة بلخادم جاءت ب "عملية قيصرية" والوزراء ال 18 الذين فضلوا "الحضانة البرلمانية" على البقاء في حكومة لم يكونوا يتوقعون أن توزع وزاراتهم على الوزراء الذين فضلوا البقاء في حكومة على الانتقال إلى قبة البرلمان؟ المؤكد أن أحد الطرفين وُفّق في اختيار الموقع، والأكثر تأكيدا أن أحدهما جانبه الصواب، فمن هو الطرف المستفيد في المرحلة الحالية؟ وزراء ومتسوّلون؟ كنت في مقبرة العالية صبيحة الجمعة الماضي حين هاجم جيش من المتسوّلين سيارات "الوزراء النواب" أو "النواب الوزراء" وهي تدخل لتسجيل حضورها في ذكرى رحيل محمد الشريف مساعدية، وهي صورة تتكرر في الجنازات التي يحضرها "رجال الدولة". واختيار المقبرة للتسوّل هو دليل على أن المتسولين أرادوا "التشبث" بمن ما يزال يتمسك بالقيم النبيلة للمجتمع الجزائري، بعد أن تأكدوا أن أيديهم تبقى ممدودة في الشوارع مادامت البلاد تحكم ب (الوكالة)، والتعددية تختصر في برنامج واحد، والمرشحون للبرلمان من الإطارات السامية يتشبثون بمناصبهم حتى يصبح الدستور تحت أقدامهم. المسؤولون في الجزائر لا يلتقون إلا في حفلات السفارات الأجنبية أو المقابر حتى لا يتهموا بالتآمر على »ولي النعمة«، وحتى لا يحسبوا على هذا الطرف أو ذاك. سألت أحد الحضور الذي وقف أمام ما يسمى ب »مربع الشهداء«: ماذا لو يأخذ أحد الزعماء »قطعة الأرض المقابلة لهم في المقبرة«، ويقيم قبرا وهمية أو نصبا ويكتب عليه »هنا سيدفن يوما من يزيح قبور الشهداء« حتى لا تبقى حاجزا بينه وبين رؤية البحر، وتذكرت ما يقال في السر حول تمثال الأمير عبد القادر الذي كان فوق حصانه متجها نحو البحر وخلفه »عمارة جبهة التحرير«، قبل نزعه وتعويضه بتمثال أكبر: »البحر من خلفكم والعدو أمامكم«، لم تكن مقولة طارق بن زياد تستوقفني في ساحة الأمير إلا بعد أن استولى البرلمان عليها وحولها إلى ممتلكاته فقلت سبحان الله: »صار العدو من خلف الأمير والبحر أمامه« أو لم تعد مقولة طارق بن زياد تنطبق عليه؟ النواب أخذوا الاعتراف ب »حصانتكم« خارج الزمن الدستوري، والحكومة استقالت كذلك خارج الزمن الدستوري، ومع ذلك يرفض الكثير مطالبة الزعيم حسين آيت أحمد ب »مجلس تأسيسي« وكأن النخبة الثقافية والسياسية لا تقرأ تاريخ بلادها. ما يطالب به الدا الحسين هو العودة إلى المجلس التأسيسي الذي انتخب في 20 سبتمبر 1962 من 196 عضو، وفي أول اجتماع له في 26 سبتمبر صوت هذا المجلس التأسيسي على »لائحة دستورية« جاء فيها بالحرف الواحد »إن المجلس يقوم بتعيين رئيس الحكومة الذي يكون قائمة وزراء«. وهذا المجلس التأسيسي صادق على الدستور الذي تم الاستفتاء عليه عام 1963 وعلى 126 نص قانوني، وثلاث مرات لمنح الثقة للحكومة في عهدة دامت عامين، كانت الجزائر فيها مشعلا أمام حركات التحرر في العالم، ولم تقص الحكومة الإطارات الشبانية، ولم تسيّر ب (الوكالة)، ففي عهدها ظهر الرئيس الحالي، ولكننا في عهده لم نر شبانا يسيّرون شؤون العباد والبلاد، وإنما شيوخا تسيّرهم الوظائف، وتقلص عدد البرلمانيين من 196 إلى 138 عضو. من الانقلاب على "الحكم" إلى الانقلاب على القانون ما حققته البلاد خلال ثلاث سنوات من مؤسسات دستورية ما بين (62 - 1965) جاء انقلاب 19 جوان 1965 الذي تسميه الوثائق الرسمية الحالية (بالحركة) ب 26 شخصا من »التاريخ« ليعطلوا العمل بالدستور والبرلمان، ويخوّلون لأنفسهم حق تسيير دولة لمدة 11 سنة دون قانون. وفي عام 1976 أقرت هذه السلطة وثيقة وتم الاستفتاء عليها، وجرت انتخابات تشريعية في 25 فيفري 1977 لتعيد للبلاد مؤسساتها الدستورية، وحين هبت رياح الديمقراطية على »جدار برلين«، وجدنا أنفسنا ندخل أولى الخطوات نحو التعددية. ولأنها ليست قرارا حقيقيا فقد جاءت بانتخابات تعددية في 26 ديسمبر 1991، صدر الاعتراف الرسمي بها في 4 جانفي 1992 بالجريدة الرسمية، لتحال إلى الأرشيف في 11 منه، وتذكر أصحاب الانقلاب أن رئيس المجلس الشعبي لم يستقل فوقعوا استقالة باسمه قبل استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد وأسسوا مجلسا استشاريا ثم مجلسا انتقاليا وجاؤوا بمن يرأس الدولة، استوردوه مثلما كانوا يستوردون المواد الاستهلاكية. ومنذ 11 جانفي 1992 إلى الغاية اليوم ونحن تحت رحمة قانون حالة الطوارئ، وكأن 15 سنة من حالة الطوارئ تضمن للمواطن أمنه الغذائي أو حقوقه. ومادامت حالة الطوارئ تسمح بالدخول إلى الجامعات والمنازل دون إذن نيابي، فهل يعقل أن نقول إن السلطة احترمت أو لم تحترم الإجراءات الدستورية المتعلقة ب (النيابة)؟ ما يؤسف له أن الكثير ممن ينتقدون ما جرى لا يلتفتون إلى بقية مواد الدستور التي تخترق يوميا تحت ذرائع معينة، فالمداهمات التي نقرأ عنها في الصحافة هي دليل على أن الدستور صار مجرد »ورقة« يعلقها الساسة لخدمة مصالحهم وليس لخدمة مصالحنا كمواطنين. وجبة النبلاء؟! يبدو أن الرئيس أدرك متأخرا أنه لا بد من أن يتخلى عمن فضلوا الحضانة على وجودهم في حكومته، كما أنه أبعد من ليست لهم علاقة بالفكر والثقافة من مناصبهم. وكأنه أراد أن يعمل بالأغنية الشعبية »النبي وأصحابه العشرة« حيث وزع عليهم »الوكالات« بما فيها رئيس حكومته، وهي إشارة إلى أنه مجرد وزير كبقية الوزراء. وتجديد الثقة في 10 وزراء بمن فيهم رئيس الحكومة يؤكد فرضية أن الحكومة القادمة قد لا تلجأ إلى البرلمانيين لتطعيمها بالوجوه الجديدة، وإذا لم يدرك الرئيس الرسالة التي وجهها له المواطنون عبر تشريعيات 17 ماي الماضي، فإنه سيفقد شعبيته، لأن المقاطعة للبرلمان هي رسالة واضحة بأن الأحزاب لم تعد قادرة على إقناع الناس، و»النضال الحزبي« مجرد غطاء للوصول إلى المناصب والمقاعد البرلمانية والمجالس المحلية. فهل يستطيع الرئيس إحداث تغيير جوهري في الحكومة؟ في كل بقاع العالم يقاس الرجال بأفكارهم ومواقفهم، والتاريخ مملوء بالقصص التي تحمل هذه المعاني. فالسلطة لا تلد العظماء، ونادرا ما نجد في التاريخ عظيما أنجبته سلطة، بل العظماء هم الذين رفضوا المناصب وبقوا أوفياء لمبادئهم، ولعل هذا ما جعل ذاكرة الشعوب تمتلئ بقصصهم وبطولاتهم، ففي الصين وجبة للنبلاء من المفكرين والكتاب والشعراء، قصتها متداولة على نطاق واسع، وبطلها شاعر فضل عدم تولي منصبا لدى ملك كان له صديقا، فاضطر الملك، حفاظا على سمعته، أن يرمي بالشاعر في النهر، لأنه رفض الاستجابة لطلبه، وتقول الرواية إن المواطنين راحوا يمدون القصب ليتشبث بها الشاعر حتى لا يغرق. وحول الصينيون »ورق القصب« إلى وجبة للنبلاء، وهم رجال الثقافة والفكر. ويقدمها الساسة الصينيون لضيوفهم الشعراء، وقد أكلتها في بيت سفير صيني سابق، وهو الذي روى لي القصة. ماذا لو كان في بلداننا العربية أمثال هذا الشاعر؟ وماذا لو أن الرئيس اقترح منصبا على شخص ورفضه أو اعتذر عن القيام بذلك، ألا يصبح هذا الشخص موقع تقدير واحترام، عوض أن يقبل المنصب وليستقيل متذرعا بحجج أقل ما يقال عنها إنها »تضليلية«. حدثني الرئيس علي كافي عن أسماءرفضت مناصب في حكومته، وفضلت البقاء في الجامعة، فزاد احترامي لها. ولم أسمع في عهد غيره عن رفض لمنصب اقترح على شخص، وتوزيع »الوكالات« على الوزراء الذين جدد فيهم الثقة يدل على ما أقول. المؤكد أن من يختصر برنامجا جامعيا من أجل إقامة دور رياضية، قد يختصر عددا كبيرا من الوزارات تحت "إبط وزير واحد". وما الفرق بين أن تسير عددا من الوزارات بالوكالة، أو تتقلدها دون احترام للاختصاص؟ وما الفرق بين أن تصير وزيرا وتبقي على منصبك كمدير عام لمؤسسة أو تفقد منصب وزير لتصير مديرا أو مجرد "اسم على ورقة" بعنوان مستشار؟ هذه حال الجزائر، وهذه هي الحقيقة التي لا تقال إلا في المجالس السرية.