يستعيد الجزائريون هذه الأيام الذكرى الواحدة والثلاثين لأحداث الخامس أكتوبر الشهيرة من عام 1988، والتي يعتبرها متابعون لشؤون الوطن العربي أول ربيع في المنطقة، حيث ثار المواطنون أيامها ضد النظام الأحادي لحزب جبهة التحرير الوطني التي حكمت البلاد 26 سنة من الاستقلال، باسم الشرعية الثورية والتاريخية، واحتجاجا كذلك على ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بعد تدهور سوق النفط منتصف الثمانينيات من القرن الفائت. وأفضت تلك الانتفاضة غير المسبوقة، والتي خلفت 500 قتيل حسب أرقام حقوقية، إلى هزة كبيرة في بنية النظام السياسي، أجبرت السلطة على فتح مجال التعددية في كل المجالات، بمقتضى دستور 23 فيفري 1989، حيث فازت بمقتضى ذلك الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلّة فوزا كاسحا في الانتخابات المحلية صيف 1990 ثم الانتخابات البرلمانية شتاء 1991، قبل إجهاض المسار الديمقراطي، ودخول البلاد في نفق الأزمة الأمنية خلال العشرية السوداء. ولا تزال أحداث أكتوبر إلى اليوم تثير تساؤلات حول الجهات المخططة لها، لأنّ أغلب التحليلات تضعها ضمن صراع الأجنحة داخل السلطة وقتها، بين تياري المحافظين والإصلاحيين، قبل أن تفلت الأحداث من الجميع، لتركب موجتها التيارات السياسية المعارضة سريًّا، وفي مقدمتهم الإسلاميون. يستحضر الجزائريون ذكرى عام 2019 في ظروف مشابهة كثيرًا، من حيث الأسباب والمدخلات، لكنها مفتوحة الآفاق بشأن النتائج والمخرجات، حيث ثاروا في 22 فبراير ضد الرئاسة الأبدية لعبد العزيز بوتفليقة، في سياق أزمة مالية بدأت تستحكم، نتيجة تراجع أسعار النفط، وأدى ذلك إلى سقوط نظام بوتفليقة، بل انتهى الحال برموز عهده في السجون، غير أنّ قطار التغيير لم يصل بعدُ إلى محطة النهاية، في وقت تتهم جهات السلطة بإدارة المشهد من وراء الستار. لذلك تعالج “الشروق” ملفّ الذكرى، في صورة مقارنة بين المحطتين الحاسمتين في تاريخ الجزائر المستقلة، من حيث الأسباب والنتائج، حيث نستعرض ملاسبات أحداث أكتوبر 1988 ومخرجاتها السياسية القريبة والبعيدة، لنربطها من حيث التشابه بسياق الحراك الشعبي الجديد، وما يمكن أن ينتهي إليه من إصلاحات فعلية أو إخفاقات محتملة. ونبني الملف من خلال رصد وجهات نظر مختلفة، وسط مثقفين ومحللين بارزين في المشهد الجزائري، حتى نخلص إلى الاستفادة من دروس الماضي في بلوغ شاطئ الانتقال الديمقراطي خلال الرحلة الجديدة آمنين غانمين. الوزير عميمور: ربيع أكتوبر مغالطة تتكرّر يقول وزير الثقافة السابق محيي الدين عميمور إنّ هناك مغالطة تتكرر سنويا، حتى كادت ترسخ كحقيقة تاريخية ثابتة، مضمونها أن أحداث أكتوبر الشهيرة من عام 1988 هي أول ربيع في المنطقة العربية. بينما واقع الأمر أنها كانت عملية فوضوية دُبّرتْ بليل للتخلص من نظام جبهة التحرير الوطني الذي كان، برغم ترهله وثغراته التنظيمية، سدّا منيعا ضد تغوّل الرأسمالية الطفيلية التي نشأت نتيجة لأخطاء عملية التنمية الوطنية وسلسلة التصفيات التي عرفها الحزب في العهدة الثانية للرئيس الشاذلي بن جديد، مثلما يرى عميمور. وأضاف أنّ التعددية الحزبية الحقيقية بدأت في 1977 بتكوين المؤسسة الحزبية التي تستوعب كل التوجهات الوطنية، والتي تتمكن من تشكيل أجنحة فكرية أو عقائدية تتحوّل تدريجيا إلى أحزاب أهم ما يميزها هو أنها تنبثق من مبادئ ثورة أول نوفمبر. لكن ما حدث في نهاية الثمانينيات كان إقامة تعددية حزبية كان من بين مكوّناتها توجهات متناقضة مع المفهوم الوطني للثورة أو مرتبطة بفكر انعزالي أو مرتكزة على ولاءات شخصية، وفق تعبيره. وأضاف عميمور أنّ النظام الانتخابي الذي أعد لتشريعيات 1991 ارتكز على نظام الأغلبية، الذي يسحق فيه الفائز الأول من يأتي بعده، وهكذا حصلت جبهة التحرير الوطني على نحو 18 مقعدا في المجلس الوطني رغم أنها حصلت على نصف عدد الأصوات التي فازت بها جبهة الإنقاذ، التي حصلت على 188 مقعد، ودفعت حماقة الانتصار إلى تصرفات واستفزازات قادت إلى العشرية الدموية. وعن المقارنة مع حراك 2019 فيراها واردة، مع اختلاف موقف الجيش. أرزقي فراد: الشعب وراء محطتّي أكتوبر وفيفري من جانبه، يرى المؤرخ محنّد أرزقي من نقاط التلاقي بين انتفاضة أكتوبر88 وحراك فيفري 2019، نجد في المقدمة غياب الديمقراطية وما نجم عنه من مظالم وتعسف وفساد وتعطيل طاقات الشباب وحرمانها من المشاركة في تسيير الشؤون العامة للوطن. وأضاف أنّ انهيار أسعار المحروقات السابق للحدثين، أدّى إلى انفجار مشاكل اجتماعية حادة، كانت بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير في أحداث أكتوبر، وأدّى إلى انتشار تململ كبير في الأوساط الشعبية بالنسبة لحراك فيفري. ويعتقد فرّاد أنّ الميزة المشتركة الأخرى، هي مبادرة الشعب بتفجير الحدثين قصد تحقيق تحوّل سياسيّ جذري ينجب دولة ديمقراطية. وعن نقاط التمايز بينهما، فقد جاءت انتفاضة 5 أكتوبر على خلفية هيمنة الأحادية السياسية، التي لم تسمح بتأطير الشعب سياسيا واجتماعيا ومدنيا، بما يجعله يطالب بحقوقه في إطار القانون. لذلك كانت أحداث أكتوبر عنيفة صبّ فيها الشباب جام غضبهم على المؤسسات العمومية. وقد واجهت الحكومة هذا الغضب الهادر بعنف أشدّ وأنكى، انجر عنه سقوط ضحايا كثيرة. هذا وقد ألقى الصراع السياسي الحاد بين جناحي السلطة المختلفين حول سياسة الانفتاح السياسيّ آنذاك، بل هناك قراءات حاولت اختزالها في صراع رئاسة الجمهورية المبادرة إلى إعلان الانفتاح السياسي، مع حزب الأفلان الرافض، مثلما أوضح فراد. وبالنسبة لحراك 22 فيفري، فقد سار، يقول المتحدث، في اتجاه النضال السلمي، مستفيدا من التجارب السابقة، ومن هامش الحرية على ضعفه، واستطاع أن يحوّل التذمّر الاجتماعي الشامل إلى حركة سياسية قادها شبان – بعيدا عن الطبقة السياسية- استغلّوا ثورة الاتصال العالمية (الأنترنيت)، بمنأى عن رقابة السلطة المتغوّلة التي فاجأها الحراك، متجاوزين بذلك عقبة انحياز الإعلام. ومن سماته الأخرى، التواصل الأفقي بين شبابه (أي من دون قيادة)، وطول النفس والاتحاد، لأنه مصرّ على الاستمرار في الضغط على السلطة القائمة إلى أن يتحقق التغيير السياسي الحقيقيّ. محمد بوعزارة: من التحريك الفوقي إلى الحراك الشعبي! وعكس سلفه، يرى الإعلامي محمد بوعزارة، أن أحداث أكتوبر 88 كانت تحريكا فوقيا من داخل النظام نفسه، موضحا أنّ معلومات أشارت إلى أن جناحا داخل الرئاسة كان يحرك لعبة التحريك، ثم وصفها آخرون بأنها ربيع الجزائر الأول، بينما يصفها دعاة الخط الوطني بأنها عملية مدروسة خُطط لها في دوائرَ أجنبية وخاصة في باريس بتعاونٍ وثيق مع بعض الرجال الذين كانوا يحيطون بالرئيس الشاذلي ويؤثرون على قراراته، وبعضهم كان محسوبا على ما يعرف ب “حزب فرنسا”. ويؤكد المتحدث أنّ الإصلاحات لم تنجح لا سياسيا ولا اقتصاديا، الأمر الذي تسبب في أزمة أمنية حادة لاحقا، ضمن مأساةٍ ما يزال الشعب يعاني من آثارها المدمرة لحد الآن. وقد كان الجزائريون يأملون أن تكون تلك المأساة امتحانا للجميع خاصة المسؤولين الذين تعاقبوا على الحكم وفي مقدمتهم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لتكون بمثابة الدرس لتحقيق انتقالٍ ديمقراطي سلس يؤدي إلى ميلاد حكم راشد، مثلما أكد بوعزارة. لكن ذلك الأمل سرعان ما تبخر بفعل تصحير الحياة السياسية من جهة وإطلاق يد الفساد لتعبث بكل مقدرات الشعب خاصة في ظل البحبوحة المالية التي صاحبت انتخاب الرئيس بوتفليقة بفعل ارتفاع أسعار المحروقات، يضيف بوعزارة. وقد أدت مختلف المظاهر السلبية التي رافقت حكم بوتفليقة إلى تذمر شعبي سرعان ما ولَّد حراك 22 فيفري، والذي لم يؤد فقط إلى إسقاط العهدة الخامسة، بل إلى تعرية نظام كان يتغذى بوعود وهمية كاذبة. ولذلك يجزم بوعزارة أنّ الشعب لم يكن هذه المرة مُحَرَّكًا، ولكنه هو الذي خلق حراكه على أمل أن يُخرج بلادنا من أزمة سياسية حادة بفعل الرئاسيات القادمة. أبو جرة سلطاني: المتغيّر الأكبر هو الفضاء الأزرق وبدوره، يؤكد أبو جرة سلطاني أن لا وجه للمقارنة بين انتفاضة أكتوبر 88 وحراك فبراير 2019، إلاّ في الأسباب التي حرّكتهما وهي احتقار النظام للشّعب، واتساع دوائر الفساد، وتدهور أسعار النفط، لذلك ثار الشّعب ليطالب برحيل النّظام ومحاسبة رموزه الفاسدة، لكن انتفاضة أكتوبر كانت دمويّة، أما الحراك فثورة سلمية رفضت الخامسة، والتمديد، والمرحلة الانتقالية. وبالمقابل نجحت المؤسّسة العسكريّة في محاصرة العصابة بالدّستور، وفي حماية الحراك ليستمر سلميا، وفي مرافقة العدالة لتتعقّب المشبوهين. وفي تشجيع ميلاد سلطة وطنية لتنظيم الانتخابات. والمتغيّر الأكبر بين الأمس واليوم، يوضح سلطاني، هو دور الفضاء الأزرق في كشف المخبوء وفي تعبئة الشارع، مما ساهم في تحقيق مكاسب كثيرة. ويتوقع المتحدث إمكانية بروز شخصيّة وطنية وازنة تقود قوّة الشّعب إلى الصّندوق الانتخابي، ترافقها إجراءات طمأنة تضمن عدم تكرار سيناريو 88، و2011. فعين الحراك تراقب تطوّر الأحداث. والمؤسسة العسكرية متمسّكة بالدستور وعازمة على تأمين الانتخابات. وجهاز القضاء انتقل إلى السّرعة الخامسة في ملاحقة كلّ من حامت حوله شبهة. ولكنّ الجبهة الاجتماعية، يقول سلطاني، بدأت تتضرّر بسبب الكساد الاقتصادي والتّنموي وحتى التّجاري، بالإضافة إلى ما يحدث كل يوم من تجاوزات في حقّ بعض المواطنين. وأضاف وزير الدولة السابق أنّ الوقت ضاغط على الجميع، والتوجّس قائم، والكلمة الأخيرة للشّعب يوم الاختبار الأكبر. فإذا لم تفرز الصّناديق رئيسا يحظى برضا الشّعب، فسوف تواجهه ثلاثة تحديّات صعبة: ضعف السّند الشّعبي، وخواء الخزينة، وكساد الحركية الاقتصادية والتّنموية بسبب تفكّك المنظومة السياسية وزرع الشكّ في مفاصل الدّولة وفي نسيج المجتمع وفي الحركة الجمعوية، فرصيد الثقة لم يعد كافيّا لإيجاد قاعدة نضاليّة تضمن التّوازن، والمواطن فقد ثقته في الوجوه القديمة، وانتخابات 12 ديسمبر قريبة، وما تجربة تونس عنّا ببعيدة. إدريس بولكعيبات: أحداث أكتوبر لغز تعذّر تفسيره! يشدّد الباحث إدريس بولكعيبات، المختص في علم الاجتماع، أن أحداث الخامس من أكتوبر 1988 لا تزال لغزا تعذّر تفسيره، لكنها في كل الأحوال صدمت السلطة، إذ لم يسبق أن شهدت البلاد أحداثا بذلك العنف من قبل، وكانت الجزائر تبدو كبلد مستقر لا يعاني من ظاهرة الانقلابات المتفشية في إفريقيا، كما كانت تسوّق نفسها للعالم على أنها دولة جادة في التنمية الاقتصادية والبشرية. وأضاف أنها تفجرت ضمن سياق دولي تميز بوقوع تصدعات في المعسكر الشرقي مع وضع محلي تميز بظهور جيل جديد تكوّن في الجامعات، واكتشف الغرب وعاد مسكونا بالتغيير، وهكذا ظهر صراع الأجيال: جيل نوفمبر الذي اعتقد أن رسالته لم تنته بعد، وجيل الاستقلال الذي رأى أن الوقت قد حان لتسلم المشعل الذي تأخر، فوقع الصدام الذي كان يبدو حتميا. وقال بولكعيبات إنّ الجزائر عادت اليوم إلى المربع الأول بعد ثلاثين سنة من الهروب من مواجهة حقائق الأشياء، والحراك الشعبي الحالي ما هو إلا دليل على أن الأزمة عميقة، فقد كان الدافع سياسيا هذه المرة وهو منع الرئيس بوتفليقة المُقعد من الترشح لعهدة خامسة مهينة، إلا أن الحراك سرعان ما غير الوجهة وتطرّف. وأكد أنّ القاسم المشترك بين أحداث أكتوبر والحراك اليوم هو وجود أزمة اقتصادية تتحوّل بسرعة إلى كرة ثلج متدحرجة، وقد تعوّدت السلطة على شراء السلم الاجتماعي عندما تكون وفرة مالية من أجل التسكين والتهدئة وهو سلاح ذو حدين، غير أن هذه حلول ظرفية ترقيعية والسلطة لا تجازف بالذهاب إلى الأسباب العميقة، وطالما الأمر كذلك، فإن الأزمات ستتجدد وستظل أمانا. بومدين بوزيد: من الانتفاضة إلى الحراك .. الحُلم المَسروق من جهته، يعتبر الباحث بومدين بوزيد أنّ الجزائر من أحداث أكتوبر 88 إلى حراك 22 فبراير لم تكن أمام ثورة تغيير حقيقية، ولكنها هبّات شعبية تحلم بالحرية والديمقراطية والكرامة، وتترك للآخرين قرار تجسيد هذا الحُلم الذي يتم تشويهه وسرقته. وقال بومدين إنّ كلتا الهبّتين وُلدت بعد سنين هَيمنة سُلطة الدّولة الوطنية التي حَكَمت باسم “شرعيّات تاريخيّة وهمية”، فكان أكتوبر انتفاضة ضدّ بؤس الحياة الاجتماعية وحراك فبراير ضدّ الإذلال وقهْر الكرامة، بحثٌ عن “استقلال جديد” لم يعِه حكام الجزائر، تلك التي كانت مظاهرات لم تصحبها الصورة والفاعلين الزّرق اختطفتها الأيديولوجية فكان “حُلم الدّولة الإسلامية” الحاضر بقوة بعد اكتساح جماعات الإسلام السياسي في الجامعات والمساجد منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. أمّا “حراك فبراير”، يضيف بوزيد، فكان قوّة شارك فيها الجميع بشعارات موحّدة رافقتها المؤسّسة العسكرية فكان الحُلم نحو “القضاء على المُفسدين” و”تغيير رموز النظام وتحقيق انتقال ديمقراطي” لكن في الأولويات والتفصيل لم تعد هناك مُرافقة، وكان أيضا الاختطاف وسرقة الحُلم من “جماعات الايدولوجيا”، فكان الاستقطاب داخل الحراك والرأي العام، وبرزت “الوثنية العِرقية والجهوية” وهو عامل أضعف الحراك الذي يفتقد لممثلين حقيقيين. ثورة نوفمبر حرّرت الأرض ولم تحرّر الإنسان وانتفاضة أكتوبر حرّرت الإعلام والسّياسة ولم تحرّر السّلطة من العسكر والاستبداد وحراك فبراير حرّرنا من وثنية الطغاة والعصابة الفاسدة ولكن هل يحرّرنا من التخلّف ومن “عفن ايديولوجية العِرق واللغة” وينقلنا نحو “ديمقراطية حقيقية”، يتساءل بومدين؟