لا تشبه ذكرى انتفاضة 5 أكتوبر لهذا العام باقي السنوات لأنها تأتي في سياق سياسي فريد تطغى عليه أجواء "ثورة الابتسامة" المستمرة منذ 22 فيفري للمطالبة بالتغيير الجذري وبناء دولة القانون، وهو نفس الحُلم الذي راود الجزائريين في نهاية الثمانينات لولا أن الأقدار أرادت طريقا آخر أعاد كل شيء إلى نقطة البداية. سياسيا، تقف الجزائر اليوم عند نفس نقطة التأسيس التي كانت عندها في أكتوبر 1988، فالجزائريون أرادوا حينها التغيير والقطيعة مع الحزب الواحد ونظامه الذي كان مهيمنا على المشهد السياسي منذ الاستقلال، وهم اليوم يريدون تحقيق نفس الأمل بعدما حصلوا على تعددية شكلية تصنع ديكورا سياسيا بعيدا عن السياسة التي يتحكم فيها نظام لم يشأ يوما أن يتغيّر، وهي الحقيقة التي استيقظ عليها الجزائريون في 22 فيفري، عندما اكتشفوا أن النظام يريد تمرير عهدة خامسة لرئيس مريض وعاجز، أصابتهم بجرح عميق في كبريائهم فقرروا تغيير هذا الواقع بأيديهم كاسرين قيود المنع وخنق الحريات وخطاب التخويف والتهويل، فكانت مسيراتهم المليونية مثل السيل الجارف الذي يحاول تنظيف الجزائر من أدران 20 سنة من الفساد والتسلط. غير أن الفارق بين الحقبتين واضح، في أن جزائريي فيفري يبدون أكثر وعيا بعدم الوقوع في نفس أخطاء ما بعد أكتوبر 1988، بدليل صمودهم الطويل في الشارع من أجل الحصول على كل الضمانات التي تمكنهم من استعادة حقهم في اختيار رئيسهم بعيدا عن تدخلات السلطة. لهذا لم يكتف الحراك الشعبي برحيل الرئيس السابق رغم أن ترشحه كان شرارة الانطلاقة، وواصل رافعا شعارات التغيير الذي لا يكون، حسبه، برجالات النظام السابق، فكان الرفض من البداية لتطبيق المادة 102 بحذافيرها التي تعني تسيير المرحلة الانتقالية من رئيس مجلس الأمة الذي كان مواليا حتى النخاع للرئيس السابق تماما مثلما تعني الاحتفاظ بنفس الحكومة المتهمة في كل مرة بتزوير الإرادة الشعبية في الانتخابات. هذا الصمود دفع السلطة إلى إلغاء انتخابات 4 جويلية وأجبرها على تقديم بعض التنازلات التي لا يزال يراها الحراك الشعبي غير كافية لإجراء الانتخابات. لكن مع إصرار السلطة على تنظيم الرئاسيات في 12 ديسمبر بشروط يراها الكثيرون في الحراك والساحة السياسية غير مواتية، هل بات يُخشى أن تتعرض لحظة فيفري إلى السرقة مثلما حدث مع أكتوبر؟ هذا السؤال يُجيب عنه الباحث في علم الاجتماع السياسي، ناصر جابي، على مستويين. الأول أن النظام السياسي من الواضح أنه لم يستفد من تجربة أكتوبر، بل على العكس ساءت قدرته على الفهم ولم يستخلص الدرس والعبرة، فقراءته للأحداث لا تزال قديمة مبنية على المنطق الأمني البحت من خلال الاعتقاد بوجود أطراف تحرك الحراك يكفي اعتقالهم للقضاء عليه. كما أنه مازال يرفض الحوار السياسي، وهو ما يؤكده رفضه عشرات المبادرات السياسية التي كانت تطرح حلولا عقلانية ومقبولة للأزمة وإصراره بالمقابل على إنفاذ الاستراتيجية التي يريدها. وباختياره الذهاب للانتخابات دون توافق، يضيف الباحث، فإن النظام يثبت على نفسه صفة التعنت، رغم أن هذا الواقع يضعه وجها لوجه مع الحراك الشعبي بعد انهيار الواجهة المدنية التي ظل يعوّل عليها في المواجهة السياسية. المستوى الآخر يمسكه جابي من زاوية المواطن الجزائري، الذي رفض من البداية في مظاهراته العنف وتمسك بسلاح السلمية، كما أنه رفض الدخول في صراع العصب رغم محاولات النظام إقحامه في ذلك وأجل كل مطالبه الاقتصادية والاجتماعية وتميّز بطول النفس، وهي نقاط جوهرية في اختلافها مع أكتوبر 1988 الذي لم تدم انتفاضته سوى 5 أيام وقام على المطلب الاجتماعي الذي رفعه شباب المدن الكبرى وشهد بعض أعمال العنف وتم استغلاله سياسيا من العصب الحاكمة المتناحرة. وعلى هذا الأساس، فإن الجزائريين يبدو أنهم استفادوا كثيرا من تجربة أكتوبر، وهم في حال واصلوا طريقهم سيتفادون، وفق تحليل الباحث، ما حدث بعد أكتوبر من إعادة إنتاج للنظام في أسوأ أشكاله بعد الإصلاحات الشكلية التي جاءت بعد أكتوبر 1988 ومختلف الانتخابات التي نتجت عن ذلك في أجواء شبيهة بالحرب الأهلية.