إنّ الجدل الذي أثير هذه الأيام حول فتوى غلق المساجد بين مشايخ المسلمين أكبرُ بكثير من الوجل الذي سبَّبه فيروس كورونا في نفوس العالمين، فقد وقفنا على فتاوى كثيرة متناقضة، إذ أقرَّ بعض المشايخ ما أعلنته لجان الفتوى جملة وتفصيلا، ورفض بعضُهم ذلك جملة وتفصيلا، وأقرّ آخرون بعضها و"كفروا" ببعض، معترضين على ما سمُّوه "الطريقة المتسرِّعة" التي صدرت بها هذه الفتوى التي قرر أصحابُها غلق المساجد "من غير مصلحة مرجَّحة ولا ضرورة ملجِئة"؟! في ظلّ حمى الفتوى والفتوى المضادة في زمن كورونا، انتقلت العدوى من المشايخ إلى غيرهم، فقد استوقفني ما كتبته الدكتورة مها العطار على صفحتها على الفايسبوك: "غلق مساجد إيران أمام المصلين، وأمس توقف الطواف بالكعبة، وقريبا في كل الدول العربية والإسلامية غلقُ المساجد وعدم إقامة الشعائر، ومن أظلم ممَّن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم". أعرف أن مها العطار متخصِّصة في الفلسفة وخبيرة فيما يسمى "طاقة المكان" ولا شأن لها بالفتوى لا من قريب ولا من بعيد، ولكنها أصرّت في ظل حمى الفتوى على إبداء رأيها والإدلاء بدلوها فكانت أكثر تشددا في الرأي وهي ليست من أهل الرأي ممن نعرف من المتشدِّدين من أهل الرأي. اجتمعت لجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف للنظر في هذه النازلة الجديدة المتمثلة في فيروس كورونا، وخلُصت إلى تعليق الجمعة والجماعة بالمساجد مع الإبقاء على شعيرة الآذان، وممَّا جاء في بيانها بهذا الخصوص: "صار من اللازم شرعا اللجوء إلى تعليق صلاة الجمعة والجماعات وغلق المساجد ودور العبادة في كل ربوع الوطن مع المحافظة على شعيرة الآذان إلى أن يرفع الله عنا هذا البلاء". ليس لمؤمن أن يشكِّك في عقيدة أعضاء لجنة الفتوى أو يتَّهمهم بالركون إلى الحاكم والخروج عن أحكام الشريعة ومجانبة الحكمة، أو تعمُّد غلق المساجد، فغلقُ المساجد وتعليق الصلوات بها إجراءٌ احترازي أملته النازلة الواقعة المتمثلة في فيروس كورونا والضرورة الشرعية، وسيزول الغلق بزوال الأسباب الداعية إليه، لكن بعض المشايخ -سامحهم الله- سارعوا إلى انتقاد القرار وخرجوا علينا بفتاوى لا تحمل في طياتها شيئا ذا بال. إن المساجد هي بيوت الله التي تهوي إليها قلوب المؤمنين، وهي المكان الأطهر على وجه البسيطة الذي ترتاده الملائكة ويحسّ فيه المؤمن بالسكينة والطمأنينة، وهي البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُه ولا أعتقد أن هناك مؤمنا واحدا موحِّدا يرضى أن يكون ممن يمنع مساجدَ الله أن يُذكر فيها اسمه. من مقاصد شريعتنا حفظ الدين وحفظ النفس وقرار لجنة الفتوى في الجزائر يندرج في هذا الإطار الشرعي ومع ذلك قرأنا لأحدهم ما سماه "بيان وتوضيح لكون قرار لجنة الفتوى في الجزائر بغلق المساجد وتعليق الجُمع والجماعات غير صحيح" والذي استهلَّه بهذه المرثية الباكية الشاكية: "فوجئنا وفُجعنا صبيحة هذا اليوم بقرارٍ من لجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف يقضي بغلق المساجد كلها على مستوى الوطن كله وتعليق الجُمع والجماعات بحجة أن المساجد مكانٌ لنقل العدوى بفيروس كورونا عافانا الله وإياكم وجميع الإنسانية منه وسلطه على أعداء الملة والدين". من الغريب أن الشيخ الفاضل الذي أقرُّ له برابطة الأخوّة والذي جمعتني به زمالة علمية سنوات عديدة قد استهلَّ كلامه ببيان أن الفتوى خاطئة ومجانِبة للصواب وبأن الله أخذ على أهل العلم بالبيان وعدم الكتمان وهذا حق محفوظ لكل أهل العلم، ولكن من الخطأ أن يدَّعي بعضُنا أنه على حق وغيره على باطل. كنت أتمنى أن أجد في بيان هذا الشيخ ما يشفي الغليل ويقيم الدليل على صحة ما ذهب إليه وعلى بطلان ما ذهبت إليه لجنة الفتوى، ولكنني لم أجد في البيان الطويل المملّ إلا مسائل مكررة وأحكاما عامة شديدة العمومية لا تطعن في صحة الفتوى. جاء في البيان أن عدم تغيُّر مناط الفتوى يقضي بعدم تغيُّر الفتوى، وهذه حقيقة، ثم استنبط صاحب البيان من هذه القاعدة عدم وجود مستجدّ يُلزمنا بغلق المسجد، وهذا مما لا يقبله عقلٌ ولا نقل. إن غلق المساجد كان للضرورة القصوى وقد سبقه غلقُ المدارس والجامعات وكثيرٌ من المؤسسات حفظا للأنفس، ولذلك فإنَّ قرار لجنة الفتوى صحيحٌ ومعتبَر شرعا، وأسوق هنا كلاما للدكتور نور الدين الخادمي أستاذ المقاصد بجامعة الزيتونة ووزير الشؤون الدينية التونسي الأسبق، وهو أصوليٌّ بارع ومقاصدي مبدِع عرفته عن قرب، يقول الخادمي بشأن تعطيل الجمعة في المساجد: "هذه الفتوى التي ذكرها العلماء وهي الفتوى المتعلقة بتعطيل صلاة الجمعة في المساجد بناء على الوباء العالمي، فيروس كورونا، هذه الفتوى فتوى صحيحة معتبَرة أصيلة وقد استندتْ إلى قاعدتين: القاعدة الأولى، وهي حفظ الدين، وحفظ الدين معناه أن الدين يُحفظ بأداء صلواتنا في بيوتنا يوم الجمعة بناءً على هذه الضرورة الشرعية، وكذلك حفظ النفس بمعنى أن النفس تُحفظ إذا صلينا صلاة الجمعة في بيوتنا خشية الوقوع في هذا الداء أو التسبُّب فيه".