د/ محمد العربي الزبيري مما لا شك فيه أن القارئ الكريم ما زال يذكر أننا ، في الحلقة السابقة ، قد توقفنا مليا عند مسألة التشكيلة السياسية ،وقلنا إنها ضرورة حتمية ولازمة لإرساء قواعد المجتمع وإعادة بناء الدولة . لكن ذلك لم يكن هو رأي الزعيم الكبير الجديد الذي اتخذ من جبهة التحرير الوطني عباءة وتخلى عن مشروع المجتمع الذي كانت قد بشرت به ليلة أول نوفمبر 1954 ثم ارتكز ، كلية ، على مؤسستي الإدارة والجيش الوطني الشعبي لتوفير الشروط الموضوعية التي يتطلبها انجاز الثورة الهادفة إلى تحرير الأرض وتحرير الإنسان . لم يكن يدري أن الظروف قد تغيرت : فالجيش الوطني الشعبي لم يعد هو جيش التحرير الوطني الذي كان يتغذى من منظومة أفكار الثورة التي قادتها جبهة التحرير الوطني ، والذي كان ، بكل واجهاته ، على اتصال مباشر مع الجماهير الشعبية الواسعة يعطيها ويأخذ منها في جميع الميادين . أما بعد الإعلان عن استرجاع الاستقلال الوطني، فإن النظام الجديد لم يتردد في اللجوء إلى المحتل السابق لتكوين ضباط ومسئولي الدرك والأمن الوطنيين غير آبه بالهوة الواسعة التي تفصل بين واقع المجتمعين وحقيقة التوجه السياسي فيهما . أما بالنسبة للإدارة ، من حيث مواردها البشرية وأسلوبها في العمل ، فإنها لا تربطها أية علاقة بإدارة جبهة التحرير الوطني التي جمدت ، بلا سبب ، قبل أن يقضى عليها نهائيا . مع العلم أن إدارة جبهة التحرير الوطني، في داخل البلاد على وجه الخصوص ، كانت ملتحمة مع جماهير الشعب ومتجاوبة إلى أبعد الحدود مع رغباتها ومتطلباتها . وكان العدل، في عهدها ، منتشرا والروابط الاجتماعية قائمة وروح التضامن والأخوة سائدة . أما بقايا الإدارة الفرنسية التي ورثتها البلاد بموجب اتفاقيات أيفيان ، فإن أغلبية إطاراتها والعاملين بمختلف قطاعاتها قد تم تكوينهم لتأدية مهام لا علاقة لها بمتطلبات الثورة وأهدافها . هكذا ، إذن ، همش العمل السياسي وطمست مصادر الغذاء الأيديولوجي عن طريق التخلي عن مشروع المجتمع الذي ضبط بيان أول نوفمبر خطوطه العريضة والذي كان ، في مجمله ، تعبيرا صادقا عن التراكم النضالي الذي سبق الانتقال إلى فترة الكفاح المسلح وعن طموحات الشعب الراغب في استرجاع سيادته وفي إعادة الربط مع جزائر ما قبل 1830 . وبديهي أن أهم تلك الخطوط العريضة هي : العمل بكل الوسائل لبعث الدولة الجزائرية من جديد على أن يكون نظام الحكم فيها على شكل " جمهورية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية " . وكان اختيار تعبير " في إطار المبادئ الإسلامية " مقصودا ، وكان مقصودا ،كذلك، كل ما قام به أعداء الثورة من محاولات لإخراج القطار عن سكته الطبيعية ، بدءا من تغييب التعبير المذكور في طرابلس سنة 1960 وانتهاء بتكريس " الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية " في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر 1962 . لأجل ذلك ، كان لزاما على قيادة الثورة ، أيا كانت ، أن تتوقف عند برنامج طرابلس فتراجعه مراجعة دقيقة تأخذ في الاعتبار أدبيات أطراف الحركة الوطنية ، وتطهره من المفاهيم والمصطلحات التي لا علاقة لها بواقع الشعب الجزائري المسلم . إن الذين أشرفوا على صياغة بيان أول نوفمبر 1954 لم ينطلقوا من العدم لإقناع "المواطنين والمناضلين من أجل القضية الوطنية" لكنهم ، عندما كتبوا " في إطار المبادئ الإسلامية " إنما كانوا يريدون التعبير عن الوفاء لنضال الأسلاف الذين لم يتوقفوا عن محاربة الاحتلال بجميع أنواعه، مسلحين ، في سائر مقاوماتهم ، بالعقيدة الإسلامية . ويشهد التاريخ ، اليوم ، أن الزوايا ، في جميع أنحاء البلاد ، هي التي كانت تحتضن تلك المقاومات . وفي إطار تلكم الاستمرارية العقدية بدأت جبهة التحرير الوطني نشاطها في شكل حركة جهادية : محاربها هو المجاهد ، والمقتول فيها هو الشهيد، ومعاركها تبدأ بالتكبير وتتخللها الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله . وكل ذلك مستمد من أدبيات أطراف الحركة الوطنية التي كانت ، على عكس الحزب الشيوعي الجزائري ، تؤمن "بالإسلام دينا وبالعربية لغة وبالجزائر وطنا" وتسعى بطرق مختلفة لتحقيق هدف واحد هو استرجاع الاستقلال الوطني كاملا غير منقوص. وذلكم ، من دون شك ،هو الواقع الذي جعل الإدارة الكولونيالية تبذل قصارى جهدها في البحث عن صغار الزعماء قصد تسريبهم إلى الصفوف ، يرفعون شعارات اللائكية وضرورة التوجه إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط حيث التطور والرقي، بدلا من التمسك بالانتماء العربي الإسلامي الذي " يقود البلاد مباشرة إلى الظلامية والرجوع إلى الوراء ". وإذ أعلن الزعيم الكبير الجديد أنه يسعى لبناء المجتمع الاشتراكي ، وقرر ، تعسفا ، إقصاء كل من اشتم فيهم رائحة المعارضة ،في الوقت الذي كانت الثورة في أحوج ما يكون إلى تضافر الجهود وتراص الصفوف وتوحيدها، فإنه وضع برنامج طرابلس على الرف وأطلق العنان للحكومة تطبق سياسة ارتجالية تخضع ، في مجملها ، إلى تتابع الأحداث وإلى تأثير المحيط ، وفي كثير من الأحيان إلى مزاج الأشخاص . ومع ذلك ، فإن المرء لا يستطيع الجزم بأن رئيس الحكومة ، الأمين العام للمكتب السياسي ، في ذلك الوقت ، كان يجهل أن إعادة بناء الدولة ممكن من دون تشكيلة سياسية قوية بمناضليها المهيكلين والمتواجدين على رأس جميع المناصب الحساسة .بل إن إيمانه بتلك الضرورة كان قويا إلى أبعد الحدود ، حتى أنه قال ذات يوم لوزير الدفاع ، العقيد هواري بومدين، :" إنك تكون كل شيء بفضل حزب عتيد ، ومن دونه لن يكون أي شيء " . ووجد صغار الزعماء فرصتهم في الألغام التي تضمنتها اتفاقية أيفيان، فراحوا يفجرونها ،الواحد تلو الآخر، حتى أنهم وفروا الظروف الملائمة لإسناد جميع المناصب الأساسية في الدولة إلى إطارات كونتهم المدرسة الاستعمارية من أجل الحفاظ على المصالح الفرنسية في الجزائر ، من جهة ، واستطاعوا ، من جهة ثانية ، أن يدفعوا في اتجاه مؤتمر إقصائي وانحرافي انعقد في الفترة من 16 إلى 21 أفريل سنة 1964 وخرج بمقررات أهمها :" تحويل جبهة التحرير الوطني إلى حزب طلائعي يعتمد المركزية الديمقراطية ويبني المجتمع الاشتراكي في الجزائر، مع انتهاج سياسة عدم الانحياز الإيجابي والعمل على مساندة القضايا العادلة وحركات الشعوب المناضلة في العالم أجمع ". معنى ذلك أن المؤتمرين ،الذين لم يكن من بينهم أغلبية أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ومجالس وإطارات عدد من الولايات التاريخية ، قد قرروا إلغاء مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني ليلة أول نوفمبر وجاءوا بمشروع جديد يتناقض ، في معظم جوانبه ، مع حقيقة الثورة وواقع الشعب في الجزائر . وخلاصة القول ، فإن مؤتمر الجزائر المذكور، بكل نتائجه، يعتبر انتصارا لصغار الزعماء وانقلابا سياسيا وأيديولوجيا ، وضع حدا ، بصفة رسمية ، لجبهة التحرير الوطني دون أن يأتي بالبديل لأن الحزب ألطلائعي الذي يبني الاشتراكية يتطلب نجاحه وجود مناضلين اشتراكيين وجماهير شعبية مستعدة للتفاعل معهم . ولأن ذلك لم يكن متوفرا كون المناضلين غير مستعدين للتخلي عن منظومة الأفكار التي تشبعوا بها ، خاصة خلال فترة الكفاح المسلح، وكون الشرائح الاجتماعية التي تدعي التوجه الاشتراكي والشيوعي منخرطة في أحزاب المعارضة المحظورة قانونيا ،فإن البلاد دخلت في نفق مظلم مليء بالتناقضات والفوضى وقابل للانفجار في أي وقت ، وكان ذلك الوقت هو التاسع عشر جوان 1965 .