مقران آيت العربي الانتخابات بجميع أنواعها وأشكالها تعني الاختيار بغض النظر عن الأنظمة السياسية. فالشعب يختار ممثليه على المستويات المحلية والجهوية والوطنية. كما يختار البرامج التي يلتزم هؤلاء بتنفيذها تجسيدا لسيادة الشعب. وعند إخلال المنتخبين بوعودهم الانتخابية، يتولى الناجحون دوريا إقصاءهم من القوائم وفتح المجال للتداول. لو توقفنا عند هذه العبارات، لقلنا »تحيا الانتخابات« ولكن المسألة من حيث الممارسات ليست بهذه السهولة. فالانتخابات تخضع لقوانين تضعها السلطة قصد البقاء في السلطة، وإن دعت الضرورة فلا مانع من انتهاكها. وتتم عن طريق ترشيحات تتحكم فيها قيادات الأحزاب، وإن لم يكن لها مناضلون، فلا حرج من ترشيح غير المناضلين بمقابل. وهكذا فإن التفرقة بين حزب سياسي ومؤسسة تجارية تحتاج إلى ذكاء. وقد تخضع الانتخابات بكل بساطة للتزوير أو للاتفاق المسبق الصريح أو الضمني بين السلطة وقيادات الأحزاب حول (الكوطات). وقد نجد كل هذه الوسائل مجتمعة في »النظام الانتخابي« الجزائري. ولا يمكن التوصل إلى جمع هذه »التقنيات« في عملية انتخابية واحدة إلا بفضل »عبقرية« السلطة والأحزاب. إذا كانت الانتخابات وسيلة من وسائل ممارسة الديمقراطية، فإنها صارت في بلادنا، بعد »تجربة طويلة«، وسيلة للبقاء في السلطة مع إشراك قيادات بعض الأحزاب »الأصولية« أو »الديمقراطية« في حكومات متعاقبة للحصول على حصتها من الريع، بدلا من مشاركتها في السلطة الحقيقية لمحاولة التغيير. إن أول وآخر مشاركة حقيقية معروفة في الجزائر هي الاستفتاء حول الاستقلال وبعد الاستقلال نظمت عدة انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية، وكانت المشاركة دائما ضعيفة، إن لم نقل شبه منعدمة في معظم المناطق. فالجديد إذن لا يكمن في نسبة المقاطعة ولكن في الاعتراف رسميا بأن ثلثي (2 / 3) الناخبين لم يشاركوا في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وقد تساءلنا قبل اليوم، هل هذه النسبة الرسمية تعود إلى ميلاد رغبة سياسية في البحث بكفية جدية عن أسباب المقاطعة، أم أن المشاركة كانت أقل بكثير من النسبة المعلن عنها؟ وقد تفاءلنا خيرا فلم نجده! بعد الإعلان عن نتائج التشريعيات، ظهر رؤساء جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحزب العمال على الشاشة كأنهم في جامعة صيفية ينظرون حول الفرق بين المقاطعة والامتناع. وقد اتفقوا صراحة وضمنيا عن استبعاد المقاطعة ومن ثم فإن ضعف نسبة المشاركة في اعتقادهم تعود لأسباب إدارية وليست سياسية. بدلا من فتح نقاش عام حول أزمة الثقة بين الشعب وممارسي السياسة عن طريق الاحتراف أو الهواية، قررت السلطات العمومية من بين ما قررت تعديل قانون الانتخابات وتوجيه رسائل إلى الناخبين، لكون هذه السلطات تفضل التركيز على وجود مشاكل إدارية تتحمل مسؤوليتها الإدارة بدلا من مشاكل سياسية يتحملها أقطاب النظام والذين يسبحون في فلكه. كما ركزت نفس السلطات على أن وصول عناصر إلى المجلس الوطني بدلا من تقديمها إلى المجالس القضائية يعود إلى »الأحزاب الصغيرة« التي »باعت المناصب«. والسؤال: هل فتحت السلطات المعنية تحقيقا قضائيا في الموضوع أم اكتفت بالمعاينة؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى، كيف تم اعتماد هذه الأحزاب؟ رغم خطورة الوقائع، فإننا لم نسمع بأي تحقيق حول تسجيل مترشحين على رأس القوائم مقابل مبالغ مالية، أما مسألة اعتماد أحزاب ليس لها وجود في الواقع، والغرض منه، فيمكن تلخيصه كالتالي: بعد صدور قانون الجمعيات ذات الطابع السياسي في 05 جويلية 1989، تم تأسيس أكثر من 60 حزبا، ونظرا لكثرة الأحزاب بدون مناضلين وانتشار الفوضى، وقصد إعادة ترتيب الأمور، وقع الرئيس اليمين زروال أمرا في 06 مارس 1997 يتضمن القانون العضوي المتعلق بالأحزاب السياسية. ولعل ما يهمنا في هذا المقال هما المادتان 18 و43 منه، فالمادة 43 تنص على: »تواصل الجمعيات ذات الطابع السياسي الخاضعة لأحكام القانون رقم 89 - 11 المؤرخ في 5 يوليو 1989 نشاطاتها، ريثما تمتثل لأحكام هذا القانون، لاسيما المواد من 12 إلى 25 في أجل أقصاه سنة..« ومن ثم، فكان على جميع الأحزاب المعتمدة عند صدور هذا القانون العضوي أن تمتثل لأحكام المادة 18 منه في مدة سنة تسري من تاريخ نشر هذا القانون، وهذه المادة تنص »لا يصح انعقاد المؤتمر التأسيسي إلا إذا كان يمثل خمسا وعشرين (25) ولاية على الأقل ويجب أن يجمع المؤتمر بين أربعمائة (400) وخمسمائة (500) مؤتمِر، ينتخبهم ألفان وخمسمائة (2500) منخرط على الأقل، يقيمون في خمس وعشرين (25) ولاية على الأقل، على ألا يقل عدد المؤتمرين عن ستة عشر (16) مؤتمِرا لكل ولاية وعدد المنخرطين عن مائة (100) في كل ولاية«. وتشترط نفس المادة إثبات شروط صحة المؤتمر بمحضر يحضره محضر أو موثق. إن هذه المادة واضحة ولا تقبل أي تأويل، وتشترط لتسوية وضعية جمعية ذات طابع سياسي لتصبح حزبا معتمدا، إثبات كل ما تنص عليه بمحضر يحضره محضر أو موثق، وليس مجرد تحرير محضر على وجود بين 400 و500 »مؤتمِر«. فالعملية باختصار تقتضي إعداد محاضر رسمية حول وجود بين 400 و500 مؤتمر، ووجود 2500 منخرط في 25 ولاية، وإثبات إجراء انتخاب 16 مؤتمرا لكل ولاية، وضبط قائمة منخرطين لا تقل عن 100 في كل ولاية. وينبغي أن تتم جميع العمليات بقوائم يمكن التأكد من صحتها وأن يتم انتخاب المؤتمرين في اجتماعات علنية. فهل توجد محاضر وتقارير وقوائم عند السلطة المعنية تثبت إتمام هذه الإجراءات؟ ولعل الإجراء الوحيد هو وجود بين 400 و500 شخص وليس مؤتمر بمفهوم هذا القانون، وقد سلمت الوزارة الاعتماد بناء على ذلك، دون التأكد من التقيد الحرفي بما ورد في المادة 18 المبينة أعلاه. وقد كان الغرض من التساهلية ومن عقد »مؤتمرات الملاءمة« بطريقة شبه سرية لم يسمع بها الرأي العام هو إغراق الأحزاب الفاعلة في 25 حزبا معتمدا. وقد تمسكت السلطة مرارا في مواجهة الأحزاب الفاعلة عندما تنادي بالمقاطعة بأن أغلبية الأحزاب شاركت في الانتخابات، وأن ما لا يقل عن 20 حزبا من بين 25 المعتمدة موجودة في اللجان السياسية للانتخابات، ولكن يعلم الجميع أن غرض تمثيل أحزاب في هذه اللجان رغم ثبوت عدم وجودها في الواقع لا يتعدى محاولة تضليل الرأي العام، وقد وافقت هذه الأحزاب على أن تلعب هذا الدور مقابل مبالغ مالية تدفعها السلطات العمومية تحت غطاء التعويضات أو كمقابل إيواء في فندق الجزائر أو غيره من الفنادق الفخمة... فالسلطة إذن اعتمدت أحزابا بوثائق مزورة، وهي على علم بذلك، عندما كانت بحاجة إلى »الديمقراطية الرقمية« وها هي اليوم تكتفي بالسماح ل9 أحزاب فقط بالمشاركة في الانتخابات المحلية القادمة. وتخضع باقي الأحزاب للشروط الجديدة الواردة في القانون المعدل لقانون الانتخابات. وحتى أحزاب التسعة المسموح لها تحوم شكوك حول صحة مؤتمر الملاءمة بالنسبة لبعضها وقد يؤدي وضع ملفات الأحزاب ال25 المعتمدة تحت تصرف من يريد التحقيق في ملاءمتها للقانون العضوي المبيّن أعلاه إلى نتائج لا يتصورها الكثير. لم تكتف السلطة بكل ذلك للبقاء في السلطة، فراحت اليوم ترفض مترشحين لكونهم »خطرا على النظام العام«. إن هذا السبب لا يمكن اللجوء إليه إلا في الأنظمة الشمولية التحكمية، لأن مبدأ القانون يفرض على الإدارة تسبب قراراتها تسببا كافيا لتمكين القضاء في مراقبتها، لكون عبارة »خطر على النظام العام« تعني في الحقيقة خطر على النظام القائم. ومن ثم، فإن رفض أي مترشح دون ذكر السبب يعني بكل بساطة انتهاكا صارخا للدستور ولقوانين الجمهورية، وحتى رفض مترشحين بسبب »سوابق عدلية« يحتاج إلى التدقيق لكون القانون ينص على العقوبات المخلة بالشرف Peines infamantes كالسرقة والابتزاز وتحويل أموال عمومية والجرائم الأخلاقية، وليس بسبب القتل الخطأ مثلا. ولكن إذا كانت الإدارة تتصرف خارج القانون، وإذا كان القضاء المختص بمراقبة شرعية القرارات الإدارية يخضع للتعليمات، فلا داعي للانتخابات. و»يستحسن« تعيين متصرفين إداريين لتسيير البلديات ربحا للوقت والمال وتجنيبا للتزوير، ومهما كان، فإن وضعية المواطن الاجتماعية لا تغيرها الانتخابات. فمنذ الاستقلال والمواطن ينتخب وبعد كل انتخاب تزداد حالته سوءاً على سوء. إن مقاطعة الانتخابات أو الامتناع عن التصويت ناتج عن أزمة ثقة حادة بين الشعب والطبقة السياسية، وأن الناخبين يعرفون جيدا أن وضعيتهم المأساوية لا تتغير بفضل المشاركة في الانتخابات. وأمام غلق وسائل الإعلام الثقيلة، فإن مقاطعة الانتخاب صار وسيلة من الوسائل الممكنة للتعبير. ومن ثم فإن جميع الإجراءات الإدارية المتخذة والتي ستتخذ بهذا الشأن لن تغير شيئا. بل بالعكس، فإن تحميل مسؤولية المقاطعة للناخبين وللأحزاب الصغيرة واللجوء إلى الحلول الإدارية بدلا من اتخاذ قرارات سياسية جريئة سيجعل نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة أقل بكثير من النسبة المعلن عنها رسميا في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وأؤكد موقفي مرة أخرى بأن الحل لا يتم إلا عن طريق نقاش عام وجاد حول الأزمة بكل أبعادها يشارك فيه كل المتمسكين بالعمل السلمي في إطار مبادئ الديمقراطية والجمهورية ودولة القانون. وأن باقي الحلول لا ترمي إلا لربح الوقت وإطالة عمر النظام.