تحمل هذه القصص التي استقيناها من شهود عيان، صفحات من بشاعة ما قامت به فرنسا في حق الجزائريين، فمنهم من قضى شهيدا، وهذا جزاؤه عند الله، لكن الذي يؤسف له أنّ أهالي هؤلاء الشهداء، ما يزالون إلى اليوم بانتظار استلام وثائق ذويهم التي تعترف بأنهم سقطوا في ميدان الشرف من أجل أن تعيش الجزائر حرة مستقلة، ولا يودُّ هؤلاء الحصول على تلك الوثائق لمغانم يغنمونها، ولكن كنوع من الاعتراف المعنوي بتضحيات ذويهم. كما تضم الشهادات قصص أولئك الأطفال الذين اختفوا من مصلحة طب الأطفال بمستشفى مصطفى باشا بالجزائر العاصمة سنة 1962، وإلى اليوم لا يعرف ذووهم مصيرهم، وقد استلموا شهادات وفاة تطرح أكثر من علامة استفهام، فيما يشبه اللغز المحيّر الذي ينتظر من يفكُّ خيوطه. أحداث 11 ديسمبر 1960 كما عاشتها الحاجة فروجة لم تمرّ مظاهرات 11 ديسمبر 1960 بردا وسلاما على الجزائريين، وإنما دفعوا ثمنها غاليا بعد أن استنفرت فرنسا الاستعمارية قواتها لقمع المظاهرات بشتى الوسائل، وما يزال بعض ممّن شارك في تلك الأحداث حيا يرزق، ومن هؤلاء الحاجة فروجة بوحدي التي تقيم اليوم بدشرة حاج لونيس بعمال ولاية بومرداس، وقد كان عمرها غداة مظاهرات 11 ديسمبر 1960، 21 سنة، وكانت يومها تقيم بالقصبة بالجزائر العاصمة. في شهادتها حول تلك الأحداث تقول الحاجة فروجة:"انطلقنا صبيحة 11 ديسمبر 1960 بعد أن اجتمع عدد كبير من الناس بحي القصبة، وسأل بعضهم عن من يحفظ النشيد الوطني ليتقدّموا المظاهرات، وطُلب مني رفع العلم فآثرت أن يرفعه غيري، وبدأنا نردد نشيدا بالعربية الدارجة، مفاده أننا لن نتراجع حتى نيل الاستقلال، حتى وإن كان العالم كلّه ضدنا، سارت المظاهرات حتى حسين داي، بينما عدت إلى القصبة دون إتمام المسيرة لعدم قدرتي على السير، وعند عودتي هدّدني بعض الحركى، ثم بدأت عمليات إطلاق القنابل المسيلة للدموع، ما جعلني لا أقدر على التنفس بسبب الغازات، وقد أصيب في المظاهرات 70 امرأة، وعند إسعافي أخبرني طبيب يدعى كربوش، وهو مجاهد يملك عيادة بالعاصمة، بأنّ الكثير من الناس قد أُصيبوا، وطمأنني بأنّ حالتي لا تدعو إلى القلق بعد أن أعطاني دواء لمدة 15 يوما، المظاهرات دامت يوما واحدا، قامت خلاله طائرات الهليكوبتر بإطلاق قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين، وخلال تلك المظاهرات كنت برفقة ابنتي فاطمة عيروش التي ماتت بعد شهرين أو ثلاثة من تلك الأحداث عقب استنشاقها للغازات وعدم تلقيها العلاج اللازم، أما أنا فقد دخلت إلى مستشفى الثنية لمدة ثلاثة أشهر، وقد دفنت ابنتي بإحدى المقابر التي استحدثت بالقرب من المحتشد الذي أقامته فرنسا ببلدية عمال".
المجاهد الذي مات باحثا عن وثائقه في هذه الشهادة يؤكد بوهري محمد بن السعيد"أذكر جيدا كيف اقتاد الجنود الفرنسيون والدي السعيد بوهري بن الوناس بداية 1956 من البيت على الرابعة صباحا، وخرجت والدتي الشهيدة فازاز باية، وكانت حاملا، تحاول الإمساك به، فقام أحد الجنود بدفعها بواسطة عقب سلاحه على بطنها فسقطت وسقط حملها المتمثل في ابنتين، وساعدها الجيران على العودة إلى داخل البيت، بينما قضى والدي أسبوعا بثكنة درك بني عمران، لينقل بعدها إلى الأخضرية ومن ثمّ البرواڤية لينتهي إلى سجن بوسوي ببلعباس، وفي حوالي نوفمبر 1961 خرج من السجن، لكنه وجد كل شيء تغيّر، فوالدتي كانت قد توفيت بعد سقوط حملها، وظل ملزما بالتوقيع بشكل يومي لدى مصالح الدرك الفرنسي. بعد الاستقلال، أشرت على والدي بحرق ما كان بحوزته من وثائق، كنوع من الانتقام من الاستعمار الفرنسي، وعندما أراد إعادة استخراج تلك الوثائق، وقع خلاف بينه وبين بعض مجاهدي قسمة الحزب، فسجن بالأخضرية وعند إطلاق سراحه، انتقل للعيش في العاصمة، وبسبب الصراع الذي كان موجودا بين قدماء السجناء، وكان والدي أحدهم، والمجاهدين المنتمين إلى قسمة الحزب، لم يستطع هؤلاء السجناء الحصول على وثائقهم لأنّهم كانوا مضطرين إلى الحصول على توقيعات المجاهدين، ومع انشغالنا باستخراج وثائق الوالد، نسينا البحث عن وثائق والدتنا الشهيدة، وحتى زوجة والدي السيدة مرشيشي، التي دفعت 5 من إخوتها إلى الشهادة، ما تزال تعاني من عدم الاعتراف بزوجها المجاهد، ولهذا أتمنى من المجاهدين المخلصين الحقيقيين، ولست أتحدث عن المزيفين منهم، أن ينتبهوا إلى هذا الأمر، وأتوجّه إلى من هم في مناصب المسؤولية، أن يردّوا لنا الاعتبار، فهناك الكثير من الحالات المشابهة لحالتنا، نحن لا نطالب بالتعويض، ولكن بإنصافنا إزاء التاريخ، وأن يعطوا لنا وثائق الوالد، لنشعر نحن باعتبارنا عائلته، بأنّ ما قدّمه للجزائر لم يضع سُدًى.
شهداء محرومون من الاعتراف يروي عجرود رابح بن محمد المولود بتاريخ 15 سبتمبر 1947 والمقيم بدشرة الشرفة التي قدّمت 126 شهيد، كيف قضت والدته حدار زهيرة شهيدة، فيقول: "كانت والدتي معروفة بتعاونها مع المجاهدين، وكان بيتنا يضمُّ مخبئين للسلاح، فقامت فرنسا بجمع سكان الدشرة سنة 1957، وتمّ استنطاق الوالدة حول مكان اختباء المجاهدين، فأنكرت معرفتها بأيّ شيء، بالرغم من تعذيبها بالكهرباء لمدة 4 ساعات كاملة، وعندما خاب الجنود الفرنسيون في العثور على شيء، قاموا بتفجير البيوت بالديناميت، وقتلوا أحد سكان الدشرة، ثم غادروا، لكنهم عادوا لقتل الوالدة فهربت واختبأت بين القصب، ورافقناها إلى منطقة جرّاح، وصدرت بعدها تعليمات من الجيش الفرنسي بقتل والدتي حيثما وُجدت، بعد حوالي 7 أشهر من هذه العملية، قام الجيش الفرنسي بعملية تمشيط واسعة النطاق، وبالفعل سقطت والدتي شهيدة خلال هذه العملية في منطقة تسمى تيعشتين، ودفنت بالمكان الذي سقطت به، ما أطالب به السلطات الجزائرية المعنية، هو رد الاعتبار لوالدتي الشهيدة المدفونة بمقبرة الشهداء بعمال، وقبرها يحمل إما رقم 13 أو 14، ومع سقوطها شهيدة على درب الحرية، إلا أنها ما تزال محرومة من وثائق تثبت ذلك، كما نطالب بإطلاق اسمها على إحدى المدارس أو الشوارع لحفظ ذكراها كأقل واجب تجاه عائلتها. وليست حالة الشهيدة حدار زهيرة الوحيدة في المنطقة، وإنما هناك حالات أخرى مشابهة، ففي دشرة الشرفة هناك حالة الشهيد شارف السعيد بن عمر، وفي دشرة إبوهرن الشهيدة بلهادي فاطمة، أما دشرة بوقراي الشهيد زواوي الهادي، وفي دشرة إزعمام الشهيدة لوشة صابري، دشرة بوعيدل الشهيد قيش السعيد بن أحمد..، وفي دشرة جراح الشهيد زيان أحمد، وهناك الكثير من الحالات المشابهة لشهداء سقطوا، وإلى اليوم لا توجد بحوزة أهاليهم أية وثائق تُثبت استشهادهم.
لغز اختفاء 20 طفلا من مستشفى مصطفى باشا لا تقلُّ قصة عيش حسان المولود بتاريخ 24 جوان 1928 بدشرة بوقراي ببني عمران، مأساوية عن القصص السابقة، وقد رواها لنا كالتالي:"أُصيب ابني في رجله، سنة 1962، قبل الاستقلال، وعمره لم يتجاوز العامين، فأخذته إلى مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة لتلقي العلاج، ولما عدت في الغد لرؤيته، أخبرني أحد عمال المشرحة، بأنّ ابني غير موجود، وأنه ليس الحالة الوحيدة، فقد اختفى كل الأطفال الذين كانوا بمصلحة طب الأطفال، وعددهم حوالي 20 طفلا، تلك الأيام العصيبة عرفت أعمالا إجرامية لمنظمة الجيش السري الفرنسية "أو.آ.أس"، وقد اعتقدنا أن اختفاء الأطفال بتلك الطريقة وراءه يد هذه المنظمة الإجرامية. بعدها تسلّمت شهادة وفاة تحت رقم 04 مستخرجة من سجلات الحالة المدنية لبلدية سيدي امحمد تحت تاريخ 29 أوت 1962، وهناك حالات أخرى مسجّلة بالتاريخ نفسه، غير أنّها لا تثبت شيئا عن أسباب الوفاة، وإلى اليوم أعيش على وقع هذا اللُّغز المحيّر. والغريب في هذا الأمر أنّ حالة ابني الصحية لم تكن تستدعي الإبقاء عليه بالمستشفى، وهو الأمر الذي يطرح فرضية أن تكون العملية مدبرة من قبل، لكن إلى حدّ اليوم تبقى خيوطها بانتظار من يحلُّها. ولا تقتصر حالات الاختفاء على الأطفال العشرين، فهناك حالة حدادو أحمد بن رابح وحليمة ميزالي، الذي اختفى سنة 1958 وعمره يومها لم يتجاوز ست سنوات، وتؤكد بعض المعلومات التي بحوزة رئيس جمعية "أسيرم" الثقافية السيد شارف محمد، بأنّ هناك سيدة تقطن بفرنسا وتطالب عائلة حدادو رابح بالقيام بتحاليل الحمض النووي لتأكيد نسبها، لأنها تقول بأنها ابنة حدادو أحمد الذي اختفى سنة 1958 .
معالم تاريخية على وشك الزوال خلال الجولة التي قادت الشروق إلى بلدية سوق الأحد، قمنا بزيارة مركز التعذيب المسمى "قوتيي" المعروف بقسوة التعذيب فيه، فوجدنا أنّ هذا المركز صار مسكنا يأوي 21 عائلة في ظروف مأساوية، ويطالب رئيس جمعية "أسيرم" السلطات المعنية الممثلة في وزارة المجاهدين والثقافة والسلطات المحلية لبومرداس، بضرورة استعادة هذا المعلم التاريخي وترميمه لتحويله إلى متحف يبقى شاهدا على فظاعة الاستعمار الفرنسي. كما طالبت ذات الجمعية بإقامة جدران حول المقبرة الموجودة بتيليوة بدشرة بوقري، والتي تضم حوالي 50 شهيدا من جيش التحرير قامت فرنسا بحرقهم جماعيا بعد استشهادهم حسب شهادة المجاهد خالفي السعيد، لتبقى هي الأخرى معلما هامًّا يشهد على تضحيات الرجال الذين قدّموا أرواحهم من أجل الاستقلال.