في هذا الجزء الخامس والأخير من حوار الدكتور أحمد بن نعمان، إجابات عن بعض القضايا السياسية، التي يكشف خلالها عن بعض قناعاته، ومدى تحقيق الجزائر للاستقلال بالمعنى الشامل للكلمة بعد أكثر من خمسين سنة على استعادة السيادة الوطنية ودحر الاستعمار الفرنسي، كلّ هذا يحاول بن نعمان الإجابة عنه، ولعلّ القارئ يلاحظ أنّ صاحب "مصير وحدة الجزائر بين أمانة الشهداء وخيانة الخفراء"، يسترسل في ردوده وسط زخم من المصطلحات التي نحتها نحتاً كقوله "التزويروقراطية"، "الأشعبية"، "التوريثوقراطية"..، وغيرها كثير.. انقسم بعض المنتسبين إلى الثورة التحريرية بشأن ضرورة اعتراف فرنسا بجرائمها المرتكبة في الجزائر.. ما موقفكم من هذا الأمر أو تعليقكم على الأقل؟ هناك ثوار (نسبة إلى الثور) وثوار (نسبة إلى الثورة) التي تقلب الأوضاع رأسا على عقب مثل ثورة الجزائر، وأنا أزعم أنني أنتمي إلى هذا النوع الأخير، ولذلك أقول بأننا في حاجة إلى فرض الاعتراف على فرنسا فرضا، مثل أحرار نوفمبر، وليس انتظار الاعتراف منها، لأنه لن يحصل أبدًا طواعية وأريحية منها مثلما لم يحصل هذا الاستقلال، على ما هو عليه من مصادرة وتلغيم على رأي المرحومين فرحات عباس وعبد الحميد مهري وعلي محساس وغيرهم من الوطنيين الصادقين... الذي لم يحصل كما هو معلوم دون أغلى ثمن دفعه شعب على مذبح الحرية في التاريخ المعاصر للبشرية. ووضعنا الحالي كشعب لا يختلف عن وضعنا أيام الاحتلال المباشر، حيث كان الذين يريدون الاستقلال لا يقدرون والذين يقدرون على إعطائه، أي الكولون، لا يريدون، ودليلي على ذلك أن فرنسا الحرة في بلادها استطاعت أن تصدر قانونًا يمجد احتلالها الإجرامي لبلادنا، ونحن لا نستطيع حتى أن نصدر في برلماننا المستقل قانونًا يجرِّم فظائع الاستعمار، ومشروع القانون الذي قدمه بعض الأحرار من بقايا الثوار عندنا، رُفض حتى مجرد طرحه للمناقشة رسميا في البرلمان، ومازال يلفظ أنفاسه الأخيرة في أدراجه إلى أن تستقل الجزائر، بمفهوم نوفمبر الأصيل، وليس بمفهوم ديسمبر الدخيل والعليل، والذي يدّعي عكس هذا من هؤلاء الزعماء، عليهم أن يثبتوا أننا مخطئون وأنهم أحرار مستقلون في إصدار القرار الذي يجرِّم الاستعمار، علما أن من أوقفوا طرحه حتى للمناقشة هم الكولون الجدد الذين يعنيهم دوغول بقوله بأنهم في قلبه وتحت عينيه، وطوع يديه وربما رجليه، ممن وضعتهم الأقدار "التزويروقراطية" و"الأشعبية" فوق الشعب المحكوم باسمه وباسم شرعية ثورته لصالح مصالح أعدائه، من المفعول بقوانين الشعب ودستوره من أجلهم وحدهم، وهذا الوضع سيظل كذلك حتى يثبت العكس، بحكم الشعب لنفسه بنفسه من خلال ممثليه الحقيقيين، وليس المعينين للتحليل والتطبيل والتزوير والتمرير.
مَن من الأحزاب السياسية في الجزائر ترى أنه الأقرب إلى مواقفك وقناعاتك؟ بالنسبة للماضي القريب قبل بضع وعشرين سنة تحديدا، كنت مع جبهة التحرير الوطني عندما كانت تجمع بين الوطنية والإيمان وثوابت الهوية المكرسة ولو نظريا في الدستور والمبادئ النوفمبرية، ما صيَّرها لعقودٍ قبلة للأحرار من كل أقطار الدنيا.. قبل أن يحوِّلها الدخلاء والوكلاء الأغيار إلى صفقة في أيدي تجار العلف وسماسرة السياسة والسيادة والشرف. وضعنا الحالي كشعب لا يختلف عن وضعنا أيام الاحتلال المباشر، حيث كان الذين يريدون الاستقلال لا يقدرون والذين يقدرون على إعطائه، أي الكولون، لا يريدون، ودليلي على ذلك أن فرنسا الحرة في بلادها استطاعت أن تصدر قانونًا يمجد احتلالها الإجرامي لبلادنا، ونحن لا نستطيع حتى أن نصدر في برلماننا المستقل قانونًا يجرِّم فظائع الاستعمار، ومشروع القانون الذي قدمه بعض الأحرار من بقايا الثوار عندنا، رُفض حتى مجرد طرحه للمناقشة رسميا في البرلمان، ومازال يلفظ أنفاسه الأخيرة في أدراجه إلى أن تستقل الجزائر. وإني الآن أنتظر بديلا للمرحومة المظلومة التي ركبها الدخلاء والأغيار وأكلوا بفمها كل أنواع الشوك العالق في حلقها، وأبعدوها عن مبادئ نوفمبر في ديسمبر، إلى أن يفك الله أسر الشعب الجزائري بأسره، وأسْرها معه، من الاختطاف مثل الأشقاء السابقين واللاحقين من شعوب الربيع العربي في تونس وليبيا واليمن ومصر وسوريا، وقد كان شتاء الجزائر قبل تونس وليبيا، ولا ننتظر ربيعا لها حسب المعطيات الحالية قبل مصر وسوريا، التي تذكرنا بمفاوضات جينيفها بجينيفنا قبلها بما يزيد عن نصف قرن، وعندها ستعود جبهة التحرير إلى دورها الحقيقي لتجدنا أوفياء لمبادئها، مثلما ناضلنا عمرًا كاملا تحت رايتها، وهي جبهة التحرير والمواقف وليست جبهة التزوير والتبرير والمقالب والمعالف.
لقد لفت نظري مقولة لكم تقول: "كل ولي عهد حاكم، هو مظلوم بقدر ما هو ظالم"، هل من شرح لهذا الحكم الذي أطلقته على أنظمة حكم تعود إلى مئات السنين من إنجلترا والمغرب إلى اليابان والصين؟ إن أي ولاية للعهد في الحقيقة والواقع هي نتيجة لحادثة بيولوجية ليس لها أية علاقة بالمواهب والقدرات الذهنية للفرد الوارث للعرش، فهو من ناحية مظلوم لأنه ليس هو الذي اختار والده، ولا أختار ترتيبه ضمن إخوته، ولا اختار قدراته الجسمية ولا الذهنية ولا ميوله الفطرية التي قد تكون بعيدة كل البعد عن السياسة والحكم، ولكنه نظراً لأن شروط الولاية رست عليه، فهي واقعة عليه دون إرادته ودون رغبته ودون قدراته، وهو معرَّض للخطر والتهديد إن رفضها فيجد نفسه مكرَها على العرش رغم أنفه، ومن هنا فهو ضحية ومظلوم، وإن قبل العرش دون أن يكون أهلا له من ناحية السجايا والمواهب والقدرات اللازمة لإدارة شؤون البلاد وتحمّل أوزار العباد، فهو ظالم للرعية التي لم يكن لها الخيار أن تبايع طواعية من تختار لحكمها، وتقاومه بالعزل إن خرج عن طاعتها، ولكنها الطبيعة البشرية ذات النفس اللوامة والنزعة الأنانية التي تجعل مورِّث العرش لوليه يفرضها عليه، لا لشيء إلا رغبة منه في استمرار ظله بعده في الاستبداد والفساد والتحكم في مصير البلاد والعباد.. وتحضرني في هذا السياق تلك النكتة التي تنسب إلى العبقري الإنجليزي برنارد شو، الذي طلبت منه إحدى الحسناوات أن يتزوجها مبررة ذلك الطلب بقولها: "إننا سننجب مولودا موهوبا يرث عبقريتك وجمالي" فقال لها: "ما أخشاه هو أن يرث هذا المولود قبح وجهي، وغباء عقلكِ"، وهو ما يعني ما قلته بأن وليَّ العهد قد لا يرث الذكاء والوفاء، بل قد يرث الفساد والغباء، وهي الحالة التي تنطبق على العديد من الأنظمة "التوريثوقراطية" و"التزويرقراطية" أو كليهما معنا في هذا العالم، ولذلك أقول بأني دائما ضد التوريث للأقارب في السياسة، بقدر ما أنا مع التوريث للمواهب في الثقافة.
كيف ترون الجزائر بعد خمسين سنة من خروج بعض عساكر العدو من بعض الحقول كما تقول؟ الحقيقة إنها أحسن مما كان يتوقع ألدُّ الأعداء، وأسوأ مما كان يحلم به كل الشهداء والأشقاء والأصدقاء الأموات منهم والأحياء. ويكفي دليلا على نجاح مخططات الجنرال دوغول في تحقيق "فرنساالجزائرية" بعد الجزائر الفرنسية ردّ وزير دفاعه في الحكومة السابقة، بحركته المشينة والمهينة لملايين الجزائريين الشهداء منهم والمنتظرين، على مطالبة وزيرنا للمجاهدين في الحكومة الحالية بضرورة اعتذار فرنسا على جرائمها الشنيعة المرتكبة في الجزائر، وقبل ذلك بثلاث سنوات وقع الشيء ذاته من وزير خارجية فرنسا الأسبق برنار كوشنير الذي اشترط من دولتنا المستقلة استبعاد وزيرنا ذاته المجاهد محمد الشريف عباس من الوفد الرئاسي الرسمي لاستقبال رئيسه ساركوزي في مطار هواري بومدين... وقد أذعنت الجزائر الرسمية لهذا الشرط المهين، وكأن الأخ المجاهد محمد الشريف عباس هو الوزير الوحيد الذي يمثل الشعب الجزائري في حكومة العزة والكرامة بعد خروج بعض عساكر العدو الظاهر. الجزائر بعد خمسين سنة من الاستقلال أحسن مما كان يتوقع ألدُّ الأعداء، وأسوأ مما كان يحلم به كل الشهداء والأشقاء والأصدقاء الأموات منهم والأحياء. ويكفي دليلا على نجاح مخططات الجنرال دوغول في تحقيق "فرنساالجزائرية" بعد الجزائر الفرنسية ردّ وزير دفاعه في الحكومة السابقة، بحركته المشينة والمهينة لملايين الجزائريين الشهداء منهم والمنتظرين، على مطالبة وزيرنا للمجاهدين في الحكومة الحالية بضرورة اعتذار فرنسا على جرائمها الشنيعة المرتكبة في الجزائر. والذي يماري في مصداقية الجنرال دوغول في كل ما ذكرناه له من نصوص خطها بيده لوزراء حزبه من بعده فليرفع هذا التحدي الدوغولي الوارد في كتابه "الأمل" ويصدر قانونا وطنيا يجرِّم الفظائع الفرنسية المرتكبة ضد الشعب الجزائري أرضا وشعبا ولسانا وكيانا، أو على الأقل يطبق الدستور الوطني في مجال السيادة الوطنية مثلما تفعل فرنسا ذاتها في دولتها المستقلة على أرضها مع أهلنا وأهلها؛ ففي هذه الحالة من المعاملة بالمثل التي تُشعر الفرنسي أنه أجنبي في الجزائر، يمكن أن ينعم شعبنا باستقلاله الوطني عن فرنسا بجدارة واستحقاق يرقى إلى مستوى تضحيات أبنائه عبر الأجيال ضد الاحتلال السابق و"الاستحلال" الحالي الخانق والساحق إلى أن يعم الربيع التونسي الواعد والصامد الذي ما يزال يمثِّل النموذج الوحيد الذي يبعث الأمل في الحياة الكريمة من جديد. وما أخذ بالتزوير و"الأشعبية" من الأغلبية الشعبية، لا يسترجع إلا بالديمقراطية الحقيقية التي ليس لها إلا طريق واحد غير متعدد، ومن يتهيب تقليد الأحرار يعش عبدًا ذليلا خادما للأغيار، أو مركوبا مذللا لحمل الأسفار والأوزار لضمان الاستقرار بالاستحمار.