سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الدكتور بن نعمان يؤكد ل " الجمهورية " رفضه التعليم الإجباري للمواد العلمية بالفرنسية و يصرح : " أنا مع ربيع عربي يدعو إلى تكريس دستور صارم لا يؤله أو يؤبد الحاكم "
حذار من القنوات الفضائية الهدامة و شهادة أبو القاسم سعد الله تشرفني الحلقة الأخيرة أكد الدكتور و المفكر أحمد بن نعمان في الجزء الثاني من الحوار الذي انفردت به جريدة الجمهورية معه ، بأنه مع ربيع عربي يدعو يطهر القلوب ، يزكي النفوس و يدعو إلى تكريس دستور صارم لا يؤله أو يؤبد الحاكم ، و أضاف الأستاذ أحمد بن نعمان رفضه التام لفكرة التعليم الإجباري للمواد العلمية باللغة الفرنسية ، و دعا إلى التعامل بالمثل بين فرنسا و الجزائر فيما يتعلق بتطبيق اللغة العربية في المدارس الفرنسية ، حتى يكون هناك توازن بين الطرفين ، محذرا في سياق متصل من القنوات الفضائية الهدامة التي تفرق و تشتت الأسر و لا تجمعها معتبرا شهادة الدكتور أبو القاسم سعد الله فيه وسام شرف و استحقاق له ، بالإضافة إلى مسائل أخرى تطرق إليها في هذا الحوار المطول : الجمهورية: تصديتم كما هو معلوم لكل المحاولات التي تستهدف لغة الضاد ، لاسيما أصحاب ما يعرف ب " النزعة البربرية " التي أوجدها الاستدمار الفرنسي في الماضي، و كنتم تؤكدون في كل مرّة على مواصلة سياسة التعريب في مختلف المؤسسات التعليمية و الإدارية ، فإلى أين وصلت هذه المقاصد الحميدة التي لا زلتم و إلى اليوم تحرصون على تحقيقها ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ، نجدها بكل وضوح في كتاب الجنرال ديغول ذاته "مذكرات الأمل" الصادر سنة 1968 الذي يقول فيه حرفيا: "ستبقى الجزائر فرنسية" وربط هذا البقاء باللغة الفرنسية، حيث يقول في الصفحة ذاتها من الكتاب المذكور: "ولئن تركناهم يحكمون أنفسهم (نلاحظ أنه لم يقل يستقلون) وإنما قال يحكمون أنفسهم (مثل الحكم الذاتي الذي يطالب به " فرحاتهم مهني " في الجزائر اليوم ) ثم يضيف الجنرال قوله:"... فهل يعني ذلك أننا نتركهم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا؟!" فيجيب بقوله "قطعا لا"، ويبرر ذلك الجواب القاطع بقوله الصريح الذي لا يقبل أي لبس أو تأويل: "لأنهم يتحدثون لغتنا ويتقاسمون معنا ثقافتنا" وإذا عرفنا أنه كان قد قال قبل ذلك أثناء مفاوضات إيفيان لأحد مقربيه في الرئاسة بأنه "لو يتعين علي أن أختار بين اللغة الفرنسية والبترول لاخترت اللغة الفرنسية دون تردد" وهو ما يؤكده رئيس وزرائه في خطابه في المجلس الوطني يوم 20/03/1962، أي في صبيحة اليوم الأول من دخول قرار توقيف القتال حيز التنفيذ قوله: "إن التطورات في الأراضي المستعمرة تتطلب منا أن نواصل بطرق جديدة المهمة التي بدأناها منذ 132 سنة" وإذا لم يكن لفرنسا أن تبقى فرنسية بالألمانية أو بالإسبانية، وكذلك الجزائر لا يمكن أن تبقى فرنسية بالعربية أو القبائلية، بل بالفرنسية "غنيمة حربه" التي افتكها بالاستحلال، بعد أن فشل في تحقيقها بالاحتلال المباشر؟! ولذلك ركز في تخطيطه لمرحلة "الاستحلال" هذه على محاربة التعريب وكل قوانين اللغة العربية المنبثقة عن الدستور و التي راح ضحيتها رئيسان مجاهدان هما الشاذلي بن جديد واليمين زروال اللذان حاولا تطبيق قانون اللغة العربية الصادر عن المجلس الشعبي الوطني، في المرة الأولى سنة 1979 والمرة الثانية سنة 1998، والقانون في طبعتيه لم يلغ رسميا من ترسانة "دولة القانون" حتى هذه اللحظة ولكنه طبق بكيفية معكوسة تماما وكأنه صادر من أجل تعميم اللغة الفرنسية في الجزائر المسلمة العربية كما كان يحلم الشهداء في بيانهم الذي طالب فرنسا صراحة في نصه حرفيا ب "الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية ملغية بذلك كل القرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية التاريخ والجغرافيا، واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري". وهذا الرفض القاطع من شهداء البيان النوفمبري معناه صراحة أن للجزائر هوية وشخصية متميزة تتكامل فيها كل المقومات التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية والثقافية التي تجعلها غير فرنسية وتمد بالتالي قادة الثورة المخلصين بمشروعية المطالبة بالاستقلال التام عن فرنسا وإذا لم تكن لغة الجزائري هي الفرنسية كما ينص البيان ولم يكن دينه هو المسيحية كما ينص البيان أيضا بكل صراحة فما هو بديل هذه اللغة غير العربية وبديل هذا الدين غير الإسلام المؤكدين في بندين آخرين من البيان بكل وضوح يمكن الرجوع إليهما في النص!. وهكذا نجد أن العربية مرتبطة بالاستقلال والسيادة الوطنية مما يجعلنا نؤكد بأنه لا استقلال بدون تعريب ولا تعريب بدون استقلال... وذلك ما أدركه الجنرال ديغول كما يقول وقد أوصى به خلفاءه "الوطنيين" من بعده لمواصلة الدفاع المستميت على مصالحها الإستراتيجية في "فرنساالجزائرية" بعد "الجزائر الفرنسية" على جبهتين متكاملتين لتحقيق الهدف الأسمى للخفراء ضد الشهداء، وهما فرض اللغة الفرنسية على الشعب الجزائري بالانقلاب أو بتزوير الانتخاب، وخلق ضرة في المقابل للغة العربية من الداخل بنواب الفاعل، وهو ما يسمى باللغة البربرية... كما ذكرنا في الإجابة عن السؤال السابق، وذلك لمنافسة اللغة العربية (الوطنية والرسمية) حتى في الدستور نيابة عن اللغة الفرنسية التي تحتل نصيب الأسد في الإدارة المركزية وكل المرافق الهامة والعامة الدنيا والعليا، خارج المجالات الفلكلورية والدينية والحملات الانتخابية الموسمية . الجمهورية: لقد ذكرتم أن الفرنسية ليست فقط "غنيمة حرب" فحسب بالنسبة لمن يبررون التمسك بها، في إدارة الجزائر المستقلة بل قلتم بأنها "هزيمة حرب" أو "جريمة حرب" فكيف تثبتون ذلك ؟ إن السياسة المنتهجة منذ الاستقلال بالنسبة للتعريب في التعليم و الإدارة أحدثت عدة مشاكل ، ذلك أن التلميذ عندنا حينما ينال البكالوريا حتى وإن كان عبقريا وقد يحصل على معدل 18/20 في كل المواد كمجموع عام، فإنه عندما يصل إلى الجامعة بعد ثلاثة أشهر في أي فرع من الفروع العلمية التي ما تزال تدرس كلها بالفرنسية يصبح هذا العبقري أميا! وبذلك يضيع مستقبل ذلك الشاب، وقد تصنع منه السياسة "الاستحلالية " شخصا آخر قد يكون معقدا أو منحرفا أو "حراڤا" أو حتى إرهابيا بامتياز، نتيجة الظلم الذي وقع عليه وحطم مستقبله وصيره أميا في جامعته الوطنية وهو عكس ما كان سيحدث لهذا العبقري لولا "جريمة الحرب" الواقعة عليه في بلاده منذ سنة 1962. فتصور طالبا عبقريا يدرس باللغة العربية منذ الصغر ثم يعود إلى الصفر أي إلى الحضانة اللغوية الفرنسية، لأنه يدرس بلغة غريبة عن لغته ولغة أمه ولغة وطنه، كما هو مسطور في المادة الثالث من الدستور، ويصبح في المؤخرة بعدما كان في المقدمة، وإنه بدل أن يذهب إلى الأمام ويتفتح عقله باللغة الوطنية مثل جميع بلدان العالم المستقلة تجده يدرس مرغما باللغة الفرنسية (الأجنبية)، ليتفوق عليه في فهم الدرس الجامعي الشخص الثاني العادي الذي يتكلم اللغة الفرنسية مع أفراد عائلته، ويفرض على هذا الشخص المظلوم الذي درس باللغة العربية أن يبذل جهدا إضافيا لدراسة اللغة الفرنسية، فيضيع سنتين من حياته الدراسية وقد يقع له شرخ ذهني، نتيجة الإكراه الذي يمارس عليه بتدريسه بلغة الأعداء جلادي الشهداء من آبائه وأجداده. فلماذا لا نعامله بالمبدأ الدبلوماسي المعروف وهو المعاملة بالمثل، أي نعامل فرنسا لغويا في بلادنا كما تعاملنا هي لغويا وسياديا في بلادها، نحن لسنا ضد تعلم اللغة الفرنسية كلغة أجنبية مثل الإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية في المدرسة الفرنسية، ولكننا ضد التعليم الإجباري للمواد العلمية باللغة الفرنسية في المدارس والجامعات الوطنية، فيجب أن نفرق بين تعليم اللغات الأجنبية، والتعليم باللغات الأجنبية للناشئة الوطنية، وقد صغت هذا الوضع المشين في مقولة منذ سنوات تقول: "تعليم اللغة الأجنبية ضرورة علمية، والتعليم بها جريمة قومية" الجمهورية: هل تؤمنون حقا بفكرة " الربيع العربي"، أم أن هذا الأخير فقد معانيه و أهدافه السامية في تحرير شعوب العالم العربي من نير الاستبداد و الديكتاتورية العمياء ، و هل حقا تحوّل هذا الربيع إلى شتاء مكفهر و مظلم لغته التدخل الأجنبي و تفتيت دولنا إلى وحدات ضعيفة و متقاتلة فيما بينها ؟ لا تهم الأوصاف والأسماء التي يطلقها الناس على الأحداث والأشياء، ولكن الذي يهم هو مدى مطابقة هذه الأوصاف للواقع الذي تعيشه الشعوب، حيث أنها قد تعيش بعض الاستقلال تحت ظل الاحتلال، وتعيش الاحتلال باسم الاستقلال، ومن ثمة فقد نجد الربيع النفسي أو الصيف في القطب الشمالي كما قد نجد الشتاء والخريف في مالي أو الربع الخالي... فالربيع المطلوب والمرغوب هو ربيع النفوس والقلوب، وحكم الشعوب، وتطبيق الدستور الصارم الذي لا يؤله أو يؤبد الحاكم. ولعلك توافقني أن هذا الصنف من الأسماء والأوضاع موجود في الخارطة السياسية المبسوطة أمام أعين الناس وحكامهم كالحصيرة لكل ذي بصر منهم وبصيرة، فعلى الذين يكرهون تبدل الفصول والأحوال ، أن يتعلموا من التاريخ ويقتدوا بالدول الغابرة القاهرة والجائرة، والدول الواعية التي استفادت من دروس الغير، وتفادت الثورات والمآسي والويلات والتدخلات الأجنبية المذكورة، وهي واقعة، ولكنها تنطبق في الوقت ذاته على الحاكم والمحكوم وعلى الظالم والمظلوم معا إن كان أي واحد منهم وطنيا، ويشعر بالمسؤولية في المظلومية، ونعتقد أن الوطنية الحقيقية هي بالتضحية وليس بالتسمية، أي أن التضحية تكون بالذات من أجل الوطن وليس بالوطن من أجل الذات... ومن أوجه الاقتداء بتلك الدول الواعية في التضحية من أجل الصالح العام وتحقيق الوئام بين الأفراد باستئصال أسباب الفساد عن طريق الفصل بين السلطات وتحقيق العدالة بتطبيق القانون الذي يجعل العصمة الكاملة لخلع أو تطليق الحكام الظالمين في أيدي السادة الناخبين المحتمين بالقانون والمحتكمين إليه في الصناديق الشفافة و بالقضاء العادل،و الانتخابات الشفافة و الديموقراطية ، هذا واقع وذاك واقع، ولكنك لو تبحث وراء كل ربيع زاهر ودائم في العالم، فإنك تجده مسبوقا بنظام فاسد ظالم في فرنسا وألمانيا، والبرتغال وإسبانيا، واليونان، وإيطاليا والمجر ورومانيا، وتركيا وبلغاريا... وعلى الذي يخشى التدخل الأجنبي من هؤلاء الناس الخائفين أن يبادر إلى تفادي الفأس قبل وقوعها في الرأس! لأن دوام الحال من المحال (كما قلنا) وشراء الذمم لا يطيل بقاء الأمم، والضغط الكبير دون مقابل في التغيير يؤدي حتما إلى التفجير والتدمير الخطير، ولعل درس العراق وسوريا، ومصر وليبيا مفيد لكل ذي عقل رشيد ولسان مديد وفكر سديد. إني أوافقك تماما على أنه لو كان حالنا قبل هذه الثورات "الربيعية" المباركة في العالم العربي جيدا وعلى أحسن ما يرام لقلنا أنها مؤامرة خارجية (وليست داخلية) من الأعداء، ولكن هذا الخارج لم يرد الخير أبدا لأمتنا عبر التاريخ وهو لا يفتأ يذكرنا ويهددنا بالحروب الصليبية في كل حين من طوني بلير، وبرليسكوني إلخ... ولا أظن أبدا أن " كنوز " إسرائيل الصهيونية الثمينة، وقلاع فرنسا الفرنكوفونية الحصينة التي سقطت وانتهت، أو التي هي في طريقها إلى السقوط بفضل هذه الثروات الأصيلة، لم تنزل على رؤوسهم بغتة كالصاعقة الماحقة، رغم كل ما بذلوه إلى آخر لحظة من جهود لإنقاذ كنوزهم ورجالهم الأوفياء في مصر وتونس وليبيا واليمن والعراق وسوريا (حتى هذه اللحظة)، وأخواتها في الدين والدنيا... إن الذي يربط هذه الثورات بالخارج ( وليس بتعفن الأوضاع في الداخل ) هو يتهم هؤلاء الأعداء بالغباء والعداء لمصالح أوطانهم وهم من ذلك براء !، ولا ننسى أن فرنسا التي ساعدت الثورة الليبية بالفعل ما كان ذلك ليحدث لولا موقف العرب الأحرار في اتخاذ القرار بالأغلبية على مستوى الجامعة العربية. الجمهورية: لا زلتم إلى حد اليوم تنتقدون بعض القنوات الفضائية الهدامة ، و قلتم بأنها أضحت تنشر الرذيلة وتحرف الحقائق عن مواضعها ، فما هي هذه القنوات التي تقصودنها بالتحديد ، و كيف نواجهها حتى نصد عن أبنائنا و بناتنا أفكارها و زيفها الحاقد الباطل؟ لا يهمنا ذكر أسماء هذه القنوات الهدامة (على أكثر من صعيد) من باب التشهير بها أو الإعلان لها، ولكن ما يهمنا هنا هو التنبيه إلى أفعالها السيئة والضارة التي تنفثها في جسم أفراد الأمة كالسموم القاتلة ذات التأثير القريب والبعيد. فهذه القنوات التي تفتت وتفرق، ولا تجمع وتوحد، على أفكار وقيم دينية أو دنيوية بناءة، و برامج مسلية أو مريبة أو موجهة أو مغذية للأرواح والقلوب والشاحذة للهمم والباعثة للأمل والناشرة للمحبة بين الناس بالاقتداء والإقناع والإمتاع... هي موجودة ولا شك من بين المئات من القنوات الفضائية والأرضية العربية في الوقت الحاضر مما يمكن المشاهد من الاختيار لنفسه ولأولاده منها حسب المستويات والأعمار دون إكراه أو إجبار، والمقياس الأساس هو ملء القلوب والرؤوس بالعلوم والمعارف المفيدة وتكريس عوامل الوحدة بأوسع معانيها، ودعم ثوابت الهوية في إطار القانون والأخلاق الفاضلة، ولا توجد تقنية في هذا العالم يمكنها أن تجبرك على غيرهذا، دون رضاك، وذلك تماما مثل ارتكاب السيئات أو اكتساب الحسنات، وما دور أي كبير في الوطن والأمة (كزعيم سياسي، أو مصلح اجتماعي أو داعية أو عالم دين أو فنان مؤثر...)، إلا أن يلتزم هذا المقياس ويرغّب فيما هو مفيد من برامج هذه القنوات وينفر-في الوقت ذاته- الناس مما هو مضرّ، وهدام من هذه البرامج والأفلام، التي تروج لها بعض تلك الفضائيات المحلية والأجنبية التي تقتحم على أبنائنا وأسرنا المحافظة، أسوار الديار، دون أي استئذان أو إخطار! الجمهورية: قال فيكم شيخ المؤرخين الجزائريين المعاصرين الدكتور أبو القاسم سعد الله "إن ما يلفت النظر في كتابات ابن نعمان هو صراحته المرة أحيانا عند طرح المسائل وتحديد الأهداف. وربما يؤاخذه البعض على هذه الصراحة التي قد تكون سببت له مشاكل ومساءلات، فليس هو عندهم من أهل المداراة والمداهنة " ما تعليقكم على هذه الشهادة الصريحة فيكم ؟ المفروض أن تطلب من غيري في الاتجاه المعاكس أن يعلق على الحكم الذي قاله في الدكتور أبو القاسم سعد الله، ولكن مادمت قد طلبت مني التعليق عليه فلا أملك إلا أن ألبي رغبة القراء الكرام حتى ولو كان ذلك يخجلني ويحرجني أن أشارك في مدح نفسي ومع ذلك أقول بأن هذه الشهادة أعتز بها لعدة اعتبارات، ومن أهمها أنها صادرة من عالم وطني لا يعرف المجاملة ولا النفاق، بل هو مثل الطبيب الجراح، لا يطلق أحكامه اعتباطا وهو إن أطلقها فلا ينتظر جزاء ولا شكورا إلا إرضاء للضمير في قول ما يراه متوجبا عليه قوله للحقيقة والوطن والتاريخ، ونظرا لأنه قد برّر قوله في مقاله عني وأصدر حكمه علي، بكل ما أورده من حيثيات عددها عن خبرة وعشرة، لعشرات السنوات داخل الوطن وخارجه، بعين الراصد وعقل الناقد، وروح الزاهد في أي جزاء إلا الوفاء الذي يعبر عن أخلاق الكرماء والشرفاء ولا أملك إلا أن أطلب من الله أن يمكنني من أن أظل عند حسن ظنه وفيا مثله لقيم الوطن والأمة و الثبات على المبادئ والوفاء للشهداء إلى أن نلتحق بهم سعداء بلقائهم إن شاء الله!. الجمهورية: قلتم مرة في تعريفكم لمفهوم الثقافة بأنكم تعارضون التوريث في السياسة للأقارب، و تشجعونه في الثقافة للمواهب، فهل هذا الأمر جار عندنا أم أنه لا يعدو أن يكون كلاما وعبرا عابرة فقط ؟ هذا الكلام قلته بالفعل منذ سنوات وهو شرح لمقولة لي نصها يقول "كل ولي عهد حاكم، هو مظلوم بقدر ما هو ظالم" وذلك لأن ولاية العهد هي نتيجة لحادثة بيولوجية ليس لها أية علاقة بالمواهب والقدرات الذهنية للفرد الضحية الوارث للعرش، فهو من ناحية مظلوم لأنه ليس هو الذي اختار والده، ولا أختار ترتيبه ضمن إخوته، ولا اختار قدراته الجسمية ولا الذهنية ولا ميوله الفطرية التي قد تكون بعيدة كل البعد عن السياسة والحكم، ولكنه نظرا لأن شروط الولاية رست عليه، فهي واقعة عليه دون إرادته ودون رغبته ودون قدراته، وهو معرض للخطر والتهديد إن رفضها فيجد نفسه مكرها على العرش رغم أنفه، ومن هنا فهو ضحية ومظلوم، وإن قبل العرش دون أن يكون أهلا له من ناحية السجايا والمواهب والقدرات اللازمة لإدارة شؤون البلاد وتحمل أوزار العباد، فهو ظالم للرعية التي لم يكن لها الخيار أن تبايع طواعية من تختار لحكمها، وتقاومه بالعزل إن خرج عن طاعتها، ولكنها الطبيعة الإنسانية ذات النفس اللوامة والنزعة الأنانية التي تجعل مورّث العرش لوليه يفرضها عليه دون رغبة منه إلا في استمرار ظله بعده في الاستبداد والفساد والتحكم في مصير البلاد والعباد ... وتحضرني في هذا السياق تلك النكتة التي تنسب إلى العبقري الإنجليزي برنارد شو، الذي طلبت منه إحدى الحسناوات أن يتزوجها مبررة ذلك الطلب بقولها: "إننا سننجب مولودا موهوبا يرث عبقريتك وجمالي الفتان" فقال لها ببداهته المعهودة: "ما أخشاه هو أن يرث هذا المولود قبح وجهي، وغباء عقلكِ"، وهو ما يعني ما قلته بأن ولي العهد قد لا يرث الذكاء والوفاء، بل قد يرث الفساد والغباء، وهي الحالة التي تنطبق على العديد من الأنظمة "التوريثوقراطية" و"التزويرقراطية" أو كليهما معنا في هذا العالم!... ولذلك صغت هذا الوضع الاستثنائي والأناني المغلف بالسياسي والإنساني، في المقولة التي سألتني عنها آنفا وهي أني أعارض التوريث في السياسة والرئاسة للأقارب، و وأشجعه في الثقافة والزعامة للمواهب!!