ستبقى كل صورة دخلت مخيلتنا راسخة في أذهاننا.. وستظل باقية في عقولنا وفي ذاكرتنا لا تنمحي بأثر التقادم، خاصة إذا كانت هذه الصور عن بلد صنع اسمه وحضارته المسلمون طيلة 8 قرون.. كلها مرت في بناء مجد لإسبانيا.. ينعم اليوم سكانها بخيرات العرب القدامى والمسلمين المارين من هنا والماكثين هناك. تصور معي أيها القارئ، أنك حينما تحط قدماك على أرض برشلونة العاصمة الاقتصادية لإسبانيا ترى الدنيا وما حلمت أنت في صباك وطفولتك ومراهقتك، وكهولتك، أن تراه تجده أمامك..
"حتى المقبرة... لها أزهارها وخدمها" يقول لي أحد الجزائريين المقيمين بإسبانيا 28 سنة أن أهل برشلونة وغيرها يحترمون مقابرهم وموتاهم، ويجعلون لها حراسا ويطهرونها من الأعشاب الضارة. إن السياج الذي يحيط بالمقبرة في إسبانيا، تلفه أزهار صنعت لوحة زكية ريحها طيب.. رغم أنهم لا يؤمنون بالآخرة وحياة البرزخ.. إلا أنهم يرون موتاهم يرقدون وإلى الأبد في هذا المكان، لذا تراهم يسارعون إلى إحاطة كل قبر صغير أو كبير "بوردة الحياة" التي يسمونها تأسيا بأن روحهم مازالت في هذه الحياة، وواجب عليهم تقديسها في هذا الوقت وفي هذا المكان بالذات، ويسهر على خدمة المقابر في برشلونة فريق من العمال تشرف البلدية على تأطيرهم، وأجرتهم الشهرية، يساهم فيها أيضا أهل المقبرة الذين فقدوا أهاليهم.
"المقبرة ... مصدر رزق للأحياء" لا تتعجب أيها القارئ إذا قلت لك إن إسبانيا جعلت من المقابر مصدر رزق للأحياء، فينبغي على أهل الميت وجوبا دفع ثمن القبر إلى المصالح المختصة سواء قبل الموت أو بعده. بل إن كثيرا من العائلات وهي على قيد الحياة، تشتري المكان الذي ستدفن فيه بعد موتها.. "وأهمس في أذنك أيها القارئ" أليسوا على حق .. كل ما وجد فوق الأرض ملك للأحياء، والأموات عندهم يخدمون الأحياء فقط؟! فماذا لو أننا نحن في الجزائر، قام مسؤولو البلديات بتأطير ما يقارب ألفي بلدية على مستوى التراب الوطني، وكل بلدية بها أكثر من 5 مقابر على الأقل، وتسير هذه المقابر ووظفوا فيها أزيد من 20 ألف موظف يعيل بها عائلته ويسترزق منها لكان خيرا لهم وأقوم. و لكن عزيزي القارئ، نحن في بلادنا لا نعترف بحرمة القبر ولا نزور موتانا إلا في المناسبات، وأكثر من ذلك هناك عائلات، فقدت أهلها.. لم تزرهم منذ سنين عديدة، وكأنها كانت تتمنى موتهم وذهابهم من الوجود! إذا فالمقبرة عند الإسبانيين أعلى درجات الاهتمام، وتوجد أكبر مقبرة عند خروجك من مطار برشلونة على بعد 5 كيلومترات فقط، تقابلك بورودها وكأنها قصر مشيد من أنواع الأزهار والورود.
"العرب في ساحة كريستوف كولمبوس" يدرك الدارسون للتاريخ أن مكتشف القارة الأمريكية هو كريستوف كولمبوس في القرن الرابع عشر، وهو إيطالي الأصل، كان رحالة، وقد كرمه الإسبان بتشييد ضريحه وسط الساحة الكتالونية لما يعلو عن 50 مترا، حيث يرى من ميناء برشلونة وأعالي شوارعها الكبرى في المدينة، وقد نقش على ضريح كريستوف كولمبوس بعض المعلومات منها، ذكرى هبوطه على الأمريكيتين عام 1492م، ويجري إحياؤها باسم يوم كولمبوس في 12 أكتوبر في إسبانيا، وفي أرجاء الأمريكيتين وكندا... أما في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإنه يجري إحياء ذلك اليوم سنويا في ثاني يوم من شهر أكتوبر. وأصبح اليوم ما يعرف عند الإسبان "بلاصا كريستوفا" مكانا خالصا يلتقي فيه العرب المهاجرون والحراڤة بعضهم البعض.. فهذا تنقصه الإقامة، وذاك من دون وثائق.. وأما الآخر فيريد الزواج.. عن هذه الظاهرة اقتربنا من بعض الجزائريين الحراڤة، يقول أحدهم أنا من ولاية وهران، بعت "حانوتي" لألتحق بإسبانيا عبر قارب أخرج لي قيئي 20 مرة، لا أستطيع الآن العودة إلى الجزائر، لأني كذبت على أهلي وأصحابي هناك أني مرتاح ماديا ومعنويا، وكما ترى كل يوم آتي فيه الى هذا المكان.. لأحمل الحقائب وأراقب بعيني من أراها تقبل بحالي لأسوي وضعيتي هنا.. أقاطع كلامه.. ترقب من؟ ليرد علي..هذا الجمال الذي يلفنا من كل جانب ألا تراه حلا لمشكلتنا.؟.. إن الشقراوات في إسبانيا يعانين العنوسة أيضا.. ويتلهفن لرؤية الشباب وأنا أتيهم من هذا الباب.. فهناك امرأة تحت الخمسين قدمها لي أحد الأصدقاء كي أتزوجها مقابل الحصول على وثائق إقامة دائمة هنا... لا يهمني سنها.. ما يهم هو الوثائق!
"الحراڤة... والعشق الممنوع" حين جلست إلى جانب عدد من الحراڤة الجزائريين، عرضوا علي فكرة مصاحبتهم إلى ساحة كريستوف كولمبوس، حيث يتواعد الأصحاب والاصدقاء من تونس والمغرب والجزائر على المكان المعلوم هذا... لتبدأ رحلتهم مع العشق والغرام.. يقول لطفي 24 سنة من مستغانم.. أنا أعمل منظفا في أحد المنازل لامرأة تسكن فقط مع ابنتها منذ 3 سنوات، حصلت خلالها على وثائق تجيز لي العمل هنا، وبهذه الوثيقة حصلت على إقامة لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد، والآن - يضيف لطفي صرت واحدا من هذه العائلة، أعشق صاحبة المنزل وابنتها وأقوم بكل أشغال البيت بكل ما يأمرونني به.. أنظر إليه وأسأله... وهل تفعل ذلك في الجزائر مثلا؟ احمّر وجه لطفي واصفّر.. ليقول لي ماذا قدمت لي الجزائر.. أبي وأمي وإخوتي، الأب من دون أجرة، أرسل المال لهم كل ثلاثة أشهر لينفقوا.. فإن لم أفعل لم يجدوا ما يأكلون... هل هذه بلاد؟ يستعجب لطفي!!؟ وغير بعيد عن لطفي يركن شاب جزائري إلى جانب حسناء يرقب حركاتها وسكناتها، وحينما سألته عن لفه ودورانه بهذا المكان... رد علي.. أعلم أن هذه المرأة تعبت من حمل متاعها.. فأعرض عليها حملها بدراهم معدودة، وبكم تحمل الأمتعة؟ يرد علي يكون حسب المسافة ووزن الحقائب! إني "أكره" الزمان الذي رماني إلى هذا المكان، وجعلت نفسي سلعة وحمالا.. وألهث وراء الأمتعة كما يلهث جل الله قدركم الكلب وراء فريسته. وفي سؤالنا حول الانتخابات الرئاسية في الجزائر عبر مجموعة من الحراڤة عن أسفهم المطلق لحال البلاد.. فهم لا يرون فائدة ترجى من هذه الانتخابات ولا يهمهم من يحكم البلاد ..لأن ما يمرون به من أسى ومشاكل لا يسمع بها بوتفليقة ولا غيره من المترشحين ..يقول أحدهم نحن تم إقصاؤنا من الجزائر ولو دخلناها لأدخلونا السجن..لهذا يقبل الذل والهوان هنا في الخارج ولا ذل في الحكام في الجزائر الذين يتفننون في إذلال كل من وقع بين أيديهم..لهؤلاء نقول لهم تركنا لكم الجزائر .."هيليكم كولوها".
"غجر رومانيا... سحر وعنف وضياع" بفعل تردي الحالة الاقتصادية في رومانيا وتشعب أزمتها المالية... هاجر الآلاف من الغجر إلى إسبانيا بحثا عن لقمة العيش، ويسمونها "السياحة الجنسية"، حيث يسمح لغجر رومانيا في إسبانيا بإغراء السياح ولهن قانون يدافع عنهن... مساكين هم العرب الذين تركوا بلادهم وأرضهم وأموالهم وساروا نحو سراب اسمه أوروبا، فالمهزلة الكبرى عند رفيق 45 سنة من الغرب الجزائري "يذكر أن أكثر الجزائريين في إسبانيا هم من الغرب وقليل منهم من الوسط والشرق". أقول هذا الكهل وليس الشاب حسب رواية أصدقائه، غرّت به الدنيا فاغتر بما كان يملك من مال في بلاد الغربة بعد ما كان ساقيا في إحدى البحيرات.. سحرته إحدى الغجريات بجمالها فأعقبها واتبعها برجليه، حيث هوت عليه الدنيا بمصائبها بعد ذلك اليوم، أدخلته هذه الغجرية بحر الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. هي أكلت كل ماله وأصبح يبيع كسوته... لقد جاء يوم الحزن عليه وعلى أهله، حينما نصبت له هذه الغجرية مصيدة، وأدخلته إلى مكان فيه العشرات منهن ليختار منهن ما يشاء في لحظة عابرة، ضعف فيها رفيق، أصابته بإبرة شلت نصف جسده، ولم يستطع أن يصرخ فهاجمنه وأحطن به من كل جهة، ليأخذن أمواله وخاتمه الذهبي... وتركنه وحيدا.. يلعق جراحه بلسانه بعيدا عنهن!! ثم لتبدأ مرحلة الضياع والتيه في بلاد الغربة، لا أهل يسمعون أنينه ولا صاحبا يخفف ألمه ولا أما تسأل عنه أجائع هو أم شبعان؟ ولا أبا يكسو ابنه ليحمي جسمه من عضات الدهر ونوائبه، تلك هي حالة واحد من عديد الحالات التي لا يسمح المكان بسردها كلها. ما كان لأحد من هؤلاء أن يسقط في وحل و"غرقة" الفجور في بلاد "الناس" لو أنه احتكم لعقله ووضعه في رأسه وليس في جيبه.
"6 ملايين سائح "طافوا" حول ساحة كولمبوس" تشير أرقام تداولتها مواقع إلكترونية أن ساحة كريستوف كولمبوس عرفت إقبال عدد يزيد عن 6 ملايين سائح، طاف والتقط صورا تذكارية حول "مجسم" مكتشف القارة الأمريكية، وذلك خلال العامين الأخيرين، ويأتي هذا الرقم الذي قدمته الوكالات السياحية كمصدر تموين للاقتصاد الإسباني الراكد بفعل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع صاروخي لغلاء المعيشة هناك.
"يا داخل إسبانيا..... تمهل..!" خلال الجولة التي قادتنا إلى اكتشاف حقيقي لواقع المعيشة هناك، حري بنا أن نقول إن شبابنا المتلهف إلى العيش في إسبانيا..عليه أن يدرك تمام الإدراك أن السكان الأصليين لإسبانيا، هم الآن يتكففون السياح رجاء الصدقة عليهم.. وأن ثمة أزمة خانقة تعصر المواطن ما لم يتسلح بالمال يأتي به من بلده بغرض السياحة لا غير... إن إخواننا العرب عموما والجزائريين خصوصا، يتألمون لحالهم ومآلهم في البلاد الكتالونية، فلا يوجد عمل بالضمان ولا مبيت آمن ومطمئن، وفوق كل هذه حرقة الغربة تغلي في بطونهم.. حينما يرون جزائريا مر بهم وكأنهم التقوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم... كل هذا أنهم اصطدموا "بصخرة الأمر الواقع".. وظنوا قبلها أنهم مانعتهم حصونهم المالية من الفقر والتشرد، باع أحدهم ذهب أمه أو أخته أو زوجته، عسى أن يعالج به بعض مشاكله في بداية الطريق.. غير أن الواقع أمر من العلقم وورق "الدفلة" يتجرعونه في كل ثانية وفي كل وقت.