حتى حصول الفتنة الكبرى التي جاءت من خارج دائرة الصحابة رضوان الله عليهم، لم نكن نعلم خلافا بين الصحابة حول شروط قيام إمارة المسلمين، وقد التزموا فيها بالصريح من المحكم من التنزيل، وهذا علي يبايع ويعمل مع الخلفاء الثلاثة، ويشترك مع الستة في الشورى كمرشح ومرشح، ثم يقبل من المسلمين ترشيحه للخلافة بعد مقتل عثمان، ولا ذكر حتى هذه اللحظة لشيعة وسنة، ونواصب وروافض، ولا احتجاج بأمر من الدين أو بعهد من الرسول قد حسمه عمر بالقول: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله "لكنه أصر على أن "من بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا". فما هو من الدين بلا خلاف هو تحقيق الشورى بين المسلمين أيا كان ما يسمى به كيان الدولة المدعوة لحكم المسلمين، خلافة إمارة رئاسة أو حتى ملكية يرضاها المسلمون تنشأ عن الشورى وتسير فيهم وفق أحكامها، شريطة أن يلتزم الحاكم بالعمل في كل الأحوال بكتاب الله وسنة رسوله، ثم يجتهد رأيه بعد ذلك كما قال علي حين دعي للبيعة قبل العدول عنه إلى عثمان: أبايع على العمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. في الثلث الأول من القرن الماضي صدر سنة 1925 كتاب للأزهري علي حسن أحمد عبد الرازق تحت عنوان: الإسلام وأصول الحكم أثار زوبعة بين علماء الأزهر، وقد رأى بعضهم أنه قد "أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة"، وقد أثار الكتاب ضجة بسبب آرائه في موقف الإسلام من "الخلافة"، حيث رأى أنها ليست من الدين، ثم لأن الكتاب قد نشر في نفس فترة سقوط "الخلافة" العثمانية وبداية "الدولة" الأتاتركية، بينما كان يتصارع ملوك العرب على لقب "الخليفة" وقد رد عليه عدد من علماء الأزهر من بينهم الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر بكتاب "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم" ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية، وهو ما اعتبره الكثير من المفكرين رداً سياسيا من الملك فؤاد الأول - ملك مصر وقتئذ - ويذكر الإمام محمد الغزالي أن علي عبد الرازق قد تراجع عن رأيه في آخر أيامه. ودون الخوض كثيرا في الحجج والأسانيد التي رجع إليها الشيخ علي عبد الرازق، للقول إن الخلافة ليست من الدين، والقول: "بعدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة" أو الخوض في ما قيل عن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" من أنه "يكون دعوة صريحة أو مغلفة للعلمانية" فإن العودة لما جرى من احتجاج بين الصحابة رضوان الله عليهم داخل سقيفة بني ساعدة، لن يسعف كثيرا من يقول بان الخلافة كمؤسسة حكم، هي من الدين، وإلا كان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار قد سارعوا إلى تقديم الدليل الشرعي على الاجتهاد الفردي كما صرح بذلك عمر، لكن اليقين عندهم أن طرق اختيار ولي الأمر هي من الدين بصريح آية الشورى، كما أن وجوب استشارة ولي الأمر للرعية محكوم بالآية الثانية "..وشاورهم في الأمر" فضلا عن أن البيعة لا تقوم إلا بالتزام ولي الأمر بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله.