العنوان قد يحرك عند بعض القراءات المتسرعة شعورا بالاستفزاز كما سيحصل لاحقا عند صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وقد أثار زوبعة بين علماء الأزهر، فيما رأى بعضهم أنه قد "أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة" بل أردت أن أقف مع القارئ عند فهم الصحابة لخلافة رسول الله في تدبير أمر المسلمين والمبادئ الشرعية التي تحكمها. "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ _ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ _ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وقد أفلح الصحابة رضوان الله عليهم في اجتياز أول وأعظم اختبار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوافقوا على اختيار من يدير شأن المسلمين في الظروف التي عددنا بعضها، حتى وإن كان الصديق قد وصف ما حصل بسقيفة بني ساعدة ب"الفلتة "وقد وقى الله المسلمين شرها في إشارة إلى تغييب شرط المشورة الواسعة كما أوضح ذلك عمر وكما سيوضح لاحقا. ومع كل ما قيل حول الفلتة، وقد استغلها لاحقا من طعن في خلافة أبي بكر الصديق ومنهم الشيعة، لكن الحقيقة التاريخية تقول إن الفتنة لم تقع لا في السقيفة ولا بعدها، كما لم تدب فتنة بين الصحابة رضوان الله عليهم عند اختيار الخليفتين الثاني والثالث، بل فتحت أبوابها مع المشاغبة التي جاءت من أطراف الدولة الإسلامية في الفترة الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه. طوال ربع قرن ظل صف المسلمين متماسكا، حتى وهو يواجه الردة في ربوع واسعة من جزيرة العرب، أو وهو يقود الفتوحات الكبرى ويسقط أعظم إمبراطوريتين في ذلك الزمن: فارس والروم، وكل ما ذكر لاحقا حول وجود خلافات بين كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ليس له شواهد يعتد بها، فقد ظل كبار الصحابة مؤازرين للخلفاء الثلاث في السراء والضراء، ولا تكاد تجد في سيرهم ما يوحي بشيء من عدم الرضا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يتخلف أحد منهم لا عن البيعة ولا عن الطاعة والامتثال للخليفة المبايع. دعونا نسجل أن هذه الحقبة الرائعة من تاريخ الإسلام والمسلمين لم تشهد بعد معالجة الردة بالقوة والحزم الذين تحلى بهما الخليفة أبا بكر، لم تشهد أي خلاف يذكر بشأن إدارة أمر المسلمين، وفق فهم الصحابة لأحكام القرآن والسنة، وربما يكون انشغال المسلمين وقتها بالفتوحات وتوسيع رقعة الإسلام في الاتجاهات الأربع قد صرفهم عن الخوض مجددا، بالرأي أو باستحضار الشواهد من الكتاب والسنة، في مسألة الخلافة ومن له الحق في طلب الرياسة، كما سيحصل بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان. فالقاعدة العامة التي لم يقدح فيها أحد، هي أن الأهلية لإدارة أمر المسلمين كانت بالضرورة للصحابة: مهاجرين وأنصار، وقد حسمت خلافة أبا بكر وأغلقت باب النزاع المحتمل بين الفريقين، ولم يسجل بعدها أن استطاع أحدهم إعادة زرع الفتنة من هذه البوابة، ولم تكن الدعوة لأحقية آل البيت قد نشأت بعد، مع كل ما تنسب لاحقا من أقوال لعلي كرم الله وجهه، أو لبعض الوجوه من الهاشميين. فما نعلمه يقينا أن عليا قد بايع الخلفاء الثلاثة، وكان واحدا من الستة الذين عهد إليهم الخليفة عمر بالشورى لاختيار الخليفة الثالث، وأنه ما كان ليقبل بالدخول فيها لو كان يدعي لنفسه ولآل البيت الإمامة كما زعم الشيعة بجميع فرقهم. وقد كان بوسعه أن يكون الخليفة الثالث، وقد دعي قبل عثمان للبيعة كما سنرى حين نتعرض لبيعة الخليفة الثالث. (يتبع)