إلى جانب المبادئ الثلاثة السابقة التي لم يترك الشارع فيها الخيرة للمسلمين، فإن سيرة الخلفاء الراشدين الأربع، وقد أضاف إليهم بعضهم سيرة وسياسة الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، فقد رسخ في سياستهم مبدأين آخرين، هما مبدأ الرقابة والتقويم، ومبدأ العدل. المبدأ الرابع: خضوع ولاة الأمر للرقابة والمساءلة والتقويم. وهو المبدأ الذي أقره وسار عليه الخلفاء الراشدون منذ أن صاغه الخليفة أبو بكر في خطبة البيعة بقوله "إني قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" وهو المبدأ الطي ينبغي أن نتوقف عنده لتدبره من أكثر من وجه. فالرقابة وتقويم سياسة ولي الأمر هي حق عام للمسلمين يبدأ برقابتهم لولي الأمر حيال التزامه بنص البيعة الذي كان نصه دائما: أبايعك على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، لأنه الشرط الموجب للطاعة، بل إن الرقابة تبدأ من هنا قبل الانتقال لما هو محض اجتهاد من ولي الأمر. الحق في ممارسة الرقابة على جميع أفعال ولي الأمر بما فيها اجتهاداته في تدبير شأن المسلمين في السلم الحرب الأساس فيها مساعدة الرعية لولي الأمر متى أحسن وتقويمه والنصح له إن هو أساء. ولعل هذا ما توقف عنده علي كرم الله وجهه حين عرضت عليه البيعة بنص "العمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين، فرد على عبد الرحمن بن عوف: أبايع على العمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي" على اعتبار أن ما هو ملزم به ولي الأمر هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ثم تدبر أمر المسلمين بما يوفقه فيه الله من اجتهاد بالرأي. المبدأ الخامس: مبدأ سياسة الرعية بالعدل في كل الأحوال. وله أكثر من شاهد في القرآن الكريم أعلاه ما جاء في الآية 8 من المائدة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ _ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى_ أَلَّا تَعْدِلُوا _ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى_ _ وَاتَّقُوا اللَّهَ _ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" وقد جدد الخليفة أبو بكر التذكير به في قوله: "الضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله". دعونا نسجل مرة أخرى أن الحوار بين الصحابة في سقيفة بني ساعد أو بعدها لم يتوقف عند تسمية ولاية أمر المسلمين بالخلافة أو الإمامة أو الإمارة، حتى وإن كانوا قد اختاروا مصطلح الخلافة على الأقل في زمن الخليفة أبي بكر، وكانوا يعنون بها خلافة رسول الله في المسلمين، ولم ترد وقتها أي إشارة إلى أن الخلافة هي "خلافة النبوة في حراسة الدين" كما عرفها الماوردي أو هي "رياسة عامة في الدين والدنيا، خلافة عن النبي" كما وصفها صاحب المقاصد، وبصيغ قريبة عند أشهر من كتب في السياسة الشرعية، وربما يكون الاتفاق على عبارة الخلافة قد حصل على خلفية الحديث الشريف "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء". في أدبيات أهل السنة والجماعة يطلق لقب أمير المؤمنين على جميع الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كما يطلقونه على غيرهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين. وقد ظهر لقب أمير المؤمنين في خلافة عمر بن الخطاب، حيث كان عمر ابن الخطاب أول من تسمى بهذا اللقب "أمير المؤمنين" إذ تذكر الروايات أن أبا بكر الصديق كان يسمونه خليفة رسول الله، فلما توفي وخلفه عمر قال عمر: كان أبو بكر يقال له خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يقال لي خليفة خليفة رسول الله يطول هذا! فقال له المغيرة بن شعبة: أنت أميرنا ونحن المؤمنون فأنت أمير المؤمنين، قال: فذاك إذاً.