أراد الله عز وجل أن يكون هذا القرآن آخر كتبه إلى الناس عن طريق آخر رسله إليهم، وهو محمد بن عبد الله. ولهذا جاء هذا القرآن كاملا شاملا لكل ما يحتاجه الناس في دنياهم وأخراهم. ولكي لا يصيب هذا القرآن ما أصاب ما سبقه من كتب وصحف من تحريف وتبديل وتقوّل، حيث لم يحفظها الذين استحفظوا عليها؛ أكد الله - عز وجل- أنه هو الذي يتولّى حفظ هذا القرآن، حيث قال: "إنا نحن نزلنا الذّكر وإنّا له لحافظون". كان الناس في علاقتهم بهذا القرآن فريقين؛ *فريقا آمنوا به، واطمأنوا به، ورضوا به، وتحاكموا إليه، وحكموه في الصغيرة والكبيرة مما شجر بينهم، ولم يجدوا حرجا في أنفسهم مما قضى به.. وفريقا استنكفوا أن يؤمنوا بهذا القرآن، وجادلوا من جاءهم به، وأكثروا جداله، ومما جادلوه به أن يأتيهم ب "قرآن غير هذا" القرآن.. لقد أزعج هذا القرآن الكريم أولئك الكفرة الفجرة بما جاء به من تنظيمات ومبادىء، هي أثقل عليهم من جبال الدنيا.. إنهم يريدون الاستعلاء على الناس، والقرآن يقول بالمساواة، وهم يتعاملون بالربا والرشوة والقرآن يحرم ذلك، وهم يحبون أن يحتكروا أقوات الناس لتتضخم أرباحهم، والإسلام يمنح ذلك.. لقد ظهر فريق ثالث يدّعي "الإيمان"، ويزعم "الإسلام"، ولكنك إذا دعوت أصحابه إلى الإيمان والإسلام بطشوا بك، واتهموك بما ليس فيك، لأنك تحرجهم، وتفضح كذبهم ونفاقهم، فهم يقولون في الإسلام والإيمان والقرآن بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. إن أكثر هؤلاء القائلين في القرآن قولا جميلا، والمقيمين له مهرجانات وجوائز، يعملون - في الوقت نفسه - بعكس ما في هذا القرآن - هم هؤلاء الحكام وزبانيتهم، وبطانتهم من ذوي المال القذر، والمصالح المشبوهة، وهم جميعا يقولون بلسان حالهم ما قاله كفار قريش ومشركوها بألسنتهم لرسول الله - عليه الصلاة والسلام- كما جاء في القرآن الكريم: "إئت بقرآن غير هذا أو بدّله". إن الذي يزعج أكثر هؤلاء الحكام وزبانيتهم، وبطانتهم، وأبواقهم الإعلامية وعلمائهم العملاء هو أنه لا سلطان لهم على القرآن الكريم، فلا يستطيعون إضافة حرف إليه أو حذف حرف منه، فقد "رفعت الأقلام وجفّت الصّحف". نعم، هم يستطيعون أن لا يحكموا القرآن في قضايا الناس، وأن لا يتحاكموا إليه، وأن لا يحكموا به وإن أقسموا عليه؛ ولكنهم لا يقدرون على تغيير حرف واحد منه، ولو استطاعوا لشكلوا لجنة من "عبدانهم الجاهلين، وعلمائهم الخائنين" وأمروهم بتغيير ما يزعجهم فيه من مبادىء، وما لا يساير أهواءهم من أحكام كما يفعلوا في بعض القوانين، حيث يغيرونها - ولو كانت دساتير- كلما ظهر لهم أنها ليست في مصلحتهم، سفها منهم ظنا أن ذلك سيخلدهم في السلطة كما ظن ذلك السفيه الذي جمع مالا وعدّده، جاهلا أن الله - عز وجل - القادر والقاهر ما جعل لبشر الخلد لا في السلطة ولا في الحياة الدنيا.. ويا سعد من جعل شعاره "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا.. ".