قبل أشهر، كان الخبراء يتكلمون عن الملامح الأولى لظاهرة اقتصادية، ويقولون إنها مخيفة. وقد حاول عدد منهم إنذار أهل الحل والربط أمام هذا الانزلاق الخطير الذي كان يلوح في الأفق. * أما اليوم، فإن الظاهرة تجاوزت مرحلة الشبح الذي يقلق الاقتصاديين والخبراء، وتحولت إلى واقع لا يمكن تجاهله، خاصة بعد الأرقام التي قدمها محافظ البنك المركزي الجزائري محمد لقصاصي عن حصيلة الثلاثي الأول لسنة 2008. وتشير هذه الأرقام إلى أن الواردات الجزائرية قد بلغت مستوى وحجما لا يتحكم فيهما أحد، وكأن الأمور انفلتت نهائيا من أيدي الحكومة والسلطات الاقتصادية في البلاد. * * وبعد سنوات من اللامبالاة الاقتصادية والتهاون في استعمال أموال البلاد، ارتفع حجم الواردات وتزايدت قيمتها بصفة منتظمة. وحسب المعطيات التي قدمها محافظ البنك المركزي، فإن واردات البلاد قد بلغت عشرة ملايير دولار خلال الثلاثي الأول للسنة الحالية، مما يشير إلى أنها ستبلغ أو تفوق 40 مليار دولار في نهاية السنة. وإذا أضفنا إلى ذلك فوائد الشركات الأجنبية العاملة في الجزائر، خاصة منها تلك التي تنشط في ميدان المحروقات، فإن المبالغ من العملة الصعبة التي ستخرج من الجزائر ستتجاوز 50 مليار دولار، وهو رقم خيالي لم يكن يتوقعه أحد قبل سنوات. ويكفي أن نذكر أن واردات الجزائر قد تجاوزت 20 مليار دولار بقليل سنة 2006، و27 مليار دولار السنة الماضية، مما يشير إلى أنها ترتفع بأكثر من ثلاثين بالمائة سنويا. وبين 2006 و2008، سيعرف ارتفاع قيمة الواردات مائة بالمائة... * * ويعود ارتفاع قيمة الواردات إلى عوامل متعددة، منها ضعف الإنتاج الوطني، وانهيار قيمة الدولار، والتهاب الأسعار في الأسواق الدولية، سواء تعلق الأمر بالمواد الأولية أو المنتوجات المصنعة أو المواد الغذائية. ولكن هذه العوامل، رغم أهميتها، لا يمكن أن تغطي السبب الرئيسي الذي يؤدي إلى الارتفاع الهائل للمبالغ التي تخصصها الجزائر للاستيراد، وهو اللجوء السهل إلى الاستيراد بفضل الفائض من العملة الصعبة. واعتادت السلطات في كل المستويات أن تلجأ إلى الاستيراد إذا اقتضت الضرورة وإذا لم تقتض. وكل مسئول يلجأ بسهولة إلى هذه الطريقة خاصة وأن الحلول الحقيقية التي تدفع إلى رفع الإنتاج والتسيير العقلاني خرجت من القاموس الفكري والاقتصادي الجزائري. ومن المنتظر أن تعرف ظاهرة التبذير هذه تطورا جديدا خلال سنة 2008، لأننا مقبلون على مرحلة انتخابية ستدفع المسئولين إلى التبذير أكثر لإرضاء الحاكم وضمان السلم الاجتماعي لفتح الباب أمام عهدة ثالثة هادئة، وهو ما سيؤدي إلى نزيف جديد من العملة الصعبة. ولحد الآن، فإن كل المؤشرات تؤكد أن قيمة الواردات خلال السنة الجارية سترتفع بخمسين بالمائة مقارنة بالسنة الماضية، دون أن يكون لذلك أثر يذكر على الاقتصاد الجزائري. * * ويمكن معرفة ما يضر الاقتصاد الجزائري بقراءة عدد قليل من المؤشرات التي برزت في بداية هذه السنة. فقد ارتفعت قيمة الواردات من المواد الغذائية بما يعادل 68 بالمائة مقارنة بالسنة الماضية، وذلك دائما بسبب انهيار الإنتاج الوطني، وتراجع قيمة الدولار، وارتفاع الأسعار في السوق الدولية. لكن هذا الارتفاع يقابله دائما نفس الفشل في الداخل، مع العجز التام للإدارة في التصرف مع المواد الأساسية مثل الحبوب والبطاطا. * * ولما يجد أي مسئول نفسه أمام وضع صعب، فإنه يكفيه أن يتذكر مخزون البلاد من العملة الصعبة الذي بلغ 126 مليار دولار، وسعر البترول الذي يقترب من 150 دولار للبرميل، وفائض الميزانية الخارجية الذي بلغ عشرة ملايير دولار، يكفيه أن يتذكر هذه المعطيات ليقبل أي تصرف عشوائي، بل أن هذه العوامل أصبحت تدفع إلى التصرف غير العقلاني، مما يؤدي إلى التبذير واستعمال المال في غير محله. * * وكنتيجة حتمية لهذا التصرف، فإن الواردات فرضت منطقها على الاقتصاد الجزائري، ولا يمكن لأحد أن يتحكم فيها اليوم. وأكثر من ذلك، فإن أي مجهود لرفع الإنتاج الجزائري في أي ميدان كان سيؤدي إلى ارتفاع الواردات، بسبب ضعف الاقتصاد الوطني الذي يفتقر إلى كل شيء. ومن أراد مثلا تركيب جهاز تلفزيون أو إنتاج كيلوغرام من البطاطا، عليه أن يستورد الأجهزة وقطع الغيار أو البذور والأسمدة، وربما سيجد نفسه مضطرا إلى استيراد اليد العاملة الصينية أو الخبرة الأجنبية. وتصبح كل عملية اقتصادية مرتبطة برفع قيمة الواردات إلى مستويات خيالية دون أن تكون للحكومة قدرة على التأثير فيها، خاصة إذا واصلت التعامل مع الاقتصادي بالطريقة الحالية. * * ويعني ذلك أن الدولة الجزائرية ضيعت قدرة التحكم في الاقتصاد الوطني، مما يشير إلى أن هناك قوى أخرى بدأت تتحكم في هذا الميدان...