عابد شارف: abed_charef@hotmail.com سقط صدام حسين، وانهارت الجزائر، وركعت مصر. وتخاذلت ليبيا، وسكت المغرب، وبقيت السعودية حبيسة نفسها، وغابت سوريا. وبصفة عامة، تراجعت البلدان العربية التي تم الاتفاق على أنها "كبيرة"، وذات نفوذ جهوي على الأقل، إما بسبب فشلها في النمو، أو بسبب الحروب، أو العجز الاقتصادي. بينما كانت الأنظار متجهة إلى هذه البلدان "الكبرى"، برزت في العالم العربي أقطاب جديدة لم يكن يحسب لها حساب كبير في الماضي القريب، وأصبحت تتزعم عملية تطور تثير الانتباه. ورغم أن هذه التجارب تبقى في مرحلتها الأولى، وأنها مبنية على توفر استثمار أموال كبيرة في أغلب الأحيان، وأن البلدان التي تعيشها توجد بطريقة أو أخرى تحت الحماية الأمريكية، إلا أنها أصبحت تقترح نموذجا جديدا لا يمكن تجاهله. ولم تقتصر هذه الواحات على الرفاهية الاقتصادية، بل تمكنت من اقتحام عالم الاقتصاد والفكر والإبداع. وتحولت الإمارات العربية المتحدة، خاصة دبي وأبو ظبي، إلى جانب قطر، مرجعا لا يمكن تجاهله في العالم العربي، بل في العالم، رغم أن عدد سكانها قليل جدا، حيث لا يمثل سكان الإمارات مثلا إلا عدد سكان أحد الأحياء من مدينة صينية متواضعة. وما يلفت الانتباه أنها استطاعت أن تبرز في نفس العهد الذي برزت فيه "البلدان القارات" مثل الهند والصين والبرازيل. ومن السهل القول أن هذه الأقطاب الجديدة تعيش على برميل من النفط يحرسه جندي أمريكي. لكن ليبيا تكسب النفط، مثل العراق والجزائر، والكثير من البلدان الأخرى تعيش تحت الحماية الأمريكية، لكنها لم تتمكن من بناء رفاهية اقتصادية ولا نظام سياسي مقبول. وأكثر من ذلك، فإن بلدانا مثلا العراق والجزائر وليبيا التي تكسب النفط لم تعجز فقط عن بناء سعادة شعوبها، بل دفعتها إلى مسلسل من العنف لم ينته بعد، أو إلى انغلاق فكري وسياسي شامل، وكأنها تعيش عن معزل في عهد العولمة، وهو ما يشكل فضاء خصبا للانهيار السياسي والأخلاقي والاجتماعي. عكس ذلك، تمكنت تلك البلدان الصغيرة التي برزت في العقدين الأخيرين من تحقيق تطور بشري لا مثيل له، حيث دخل أبناؤها أحسن جامعات العالم، كما استطاعوا أن يجذبوا أكبر الأخصائيين والخبراء من أمريكا وأوربا في مرحلة أولى، ثم من العالم العربي في مرحلة ثانية. ويكفي هذه البلدان أن تستغل بجدية تلك النخبة العربية لتفرض نفسها، حيث أصبحت اتجاها مفضلا لجزء كبير من النخبة العربية. ويكفي أن نذكر أن عددا هائلا من أحسن خبراء سوناطراك يوجدون في الخليج لنقتنع بذلك. ولما ضمنت تلك البلدان رفاهية اقتصادية لشعوبها، وجدت نفسها أمام تحديات جديدة، ويبدو أنها اختارت أن تخوضها ولو بطريقة تدريجية. ووراء العباءة التقليدية والمظهر "العروبي"، برزت في السنين الأخيرة دوائر للفكر والنقاش تفوق بكثير ما تعرفه كل البلدان العربية. ولعل تلفزيون الجزيرة يشكل أحسن رمز لهذا التفتح الفكري. ولما انتشر نفوذ الجزيرة، ظهرت في ظلها قنوات أخرى حاولت أن تسير في نفس الاتجاه. وبينما أصبحت الجزيرة مؤسسة ذات نفوذ عالمي، مازال بعض الجزائريين يتكلمون عنها على أساس أنها قناة تروج للإرهاب أو أنها تتعامل بحرية مع البلدان الأخرى لكنها لا تتطرق إلى وجود الجيش الأمريكي في قطر... وترشحت دول الخليج هذه، رغم كل القيود التي مازالت تربطها والحدود التي وضعتها لنفسها، للقيام بالدور الذي قامت به بيروت في النصف الأول من القرن الماضي، لما كانت العاصمة اللبنانية فضاء للفكر العربي الحر. وأصبحت دبي وأبو ظبي والدوحة وعمان وحتى مسقط مسرحا لنشاط فكري كبير لا يوازيه إلا ما كان يجري في بيروت في العهد الذهبي للعاصمة اللبنانية. وحتى في ميدان الأحلام، فقد قال باحث اجتماعي جزائري أن بلدان الخليج أصبحت تشكل الحلم الجديد بعد أن سقط الحلم الغربي وتحولت العراق والجزائر ومصر إلى أحلام سوداء. وزاد هذا الحلم توسعا مع تلك المشاريع الخيالية التي تبنى في الخليج، مثل الأبراج والجزر الاصطناعية وغيرها، مما أدى إلى جلب أكبر نجوم العالم في الفن والرياضة. لكن نفس الباحث يقول أن هذه الأحلام تشبه أحيانا قصورا من الرمل... قصور ذهبية، لكنها من رمل. وأحلام مبنية على أوهام، حسب قوله. لكنه يعترف في الأخير أن الحلم والقصر من الرمل أفضل من اليأس والحي القصديري، خاصة إذا كانت توفر مجالا للفكر الحر.