التوتر في القارة الأفريقية أرّق الحكومات، وفتّت شبكة العلاقات الاجتماعية، وأشعل حروبا دامية هزّت الجبهة الدّاخلية، وأطال من عمر المشاريع التدميرية للاستعمار رغم رحيله منذ عقود، غير أن الحالات السابقة مجتمعة أو متفردة ليست في مستوى خطورة اللعب في المشترك بين الدول لجهة تحضير مناطق بعينها لتكون خاصة بالأقليات. * حيث من المحتمل قيام دول جديدة بدعم دولي، وقد يكون نصيبها من الجزائر وليبيا ومالي، وهو ما تشي به تلك الحروب التي تحدث بين الحين والآخر في المنطقة المشتركة بين الدول السابقة، صحيح أن الجزائر وليبيا لا تواجهان تلك المشكلة، التي يعيشها مالي في الوقت الراهن، لكن المعطيات الحالية المصحوبة بالفعل توحيان بنصيبهما في أزمة باتت وشيكة، ما لم يتم الحسم المبكّر فيها أو التدخل، ليس فقط لإبعاد الخطر وإنما لتجنيب دولنا أزمة قد تمتد لعقود. * وطبقا لشعور الدولة الجزائرية -عبر دبلوماسييها الذين اكتسبوا خبرة واسعة في حل النزاعات والصراعات والمساهمة في العلاقات الدولية، بدءا من مفاوضات إيفيان مرورا بطهران وليس انتهاء بنشاطهم الملحوظ في الدول الأفريقية- فإنها عملت منذ العام 2006 على إنهاء الحرب الدائرة بين الجيش المالي النظامي والمقاتلين التوارق، وهنا علينا تثمين الجهود التي بذلها السفير، عبد الكريم غرّيب، صاحب الرؤية الثاقبة في الشأن الأفريقي عامة والمالي خاصة، والذي ارتبط اسمه وفعله في حياة جيلنا ب (ودادية الجزائريين في أوروبا). * على العموم، فإنه بوصول حكومة مالي والمتمرّدين التوارق إلى اتفاق بإشراف جزائري لإنهاء عام من الاشتباكات المتفرقة بينهما، تنتهي مرحلة التوتر بين الطرفين والتي ما فتئت تحركها المطالب المشروعة للتحالف الديمقراطي من أجل التغيير، ويحول دون تحقيقها تقدير حكومة مالي لتلك المطالب.المدهش أن الحديث في أفريقيا عن الديمقراطية يميز خطاب الحكومات والمعارضة، ويبدأ بالحديث عن تطوير الدول، لكنه من خلال الحروب يوصلها إلى النهايات، لتصبح عرضة للتدخل الأجنبي، وتقديم وصفات جاهزة بحجة حمايتها من أهلها، لهذا تخشى بعض الدول الأفريقية، خاصة تلك التي دخلت دوامة العنف، والحل في مدّ جسور بين المعارضة والسلطة، يكون الهدف منها العيش المشترك، وما يصحب ذلك من التزام واضح وبرعاية وسيط أمين، تهمه مصلحة الطرفين لأنه جزء منها، ويمكن لنا النظر إلى دور الجزائر في الوصول إلى اتفاق بين مالي والمتمردين من هذه الزاوية. * بناء على ما سبق، يمكن لنا متابعة ما جاء في تصريح عبد الكريم غريب سفير الجزائر في مالي والوسيط في المفاوضات من أنه تم اختيار فريق مكوّن من مئتي عضو، ممثلين للطرفين لمراقبة تطبيق الاتفاق، إضافة إلى تأكيدهما معالجة القضايا التي لا تزال عالقة مثل: مصير اللاجئين والمعتقلين لدى الجانبين، والأسر التي تسعى إلى ملجأ في منطقة الحدود. * عمليا، لقد وضع الاتفاق حدا لتلك الحرب الدائرة بين الجيش المالي الذي يحصل على دعم وتدريب من الولاياتالمتحدة في إطار ما تسميها الحرب على الإرهاب، وبين المتمردين التوارق المتهمين من الحكومة المالية بمحاولة السيطرة على طرق تهريب السلاح والمخدرات عبر الحدود. ويذهب المراقبون إلى الاعتقاد أن اتفاق الجزائر يمكن الاستناد إليه لجهة القضاء على بؤر التوتر في القارة الأفريقية، أو على الأقل التخفيف من حدّتها، غير أنهم يرهنون ذلك بمدى التزام حكومة مالي بخطة التنمية قي إقليم "كيدال"، التي سبق أن التزمها طرفا الصراع في اتفاق ألفين وستة، الذي تمّ بوساطة جزائرية أيضا. مع ذلك كله، فإن هنالك تخوفا وحذرا من تأثير ميراث الماضي في الاتفاق لدى بعض المهتمين بالتوترات في القارة السمراء، حيث أن عمليات تمرد مشابهة للتوارق في ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، تؤسس لما حدث الشهور الماضية، كما أن الحاضر القريب كشف عن إخفاق الوساطة الليبية عبر مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية، التي يرأسها سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي معمر القذافي. * ميراث الماضي والحاضر القريب -إن جاز التعبير- بعدان لزمن جزائري ليبي مالي مشترك، سيظل المحّرك الأساسي فيه هم التوارق من جهة، وتربص القوى الدولية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة من جهة أخرى، وإذا كان في مقدورنا إيجاد حل يرضي جميع الأطراف ويحقق للطوارق مطالبهم، فإن تربص القوى الدولية لا يمكن التخلص منه ما دامت المعادن والثروات هي الأساس في الصراع، ما أكثرها في أفريقيا وفي صحرائها.