سبع سنوات عجاف أكلن كل ما قدم العراق لهن، ومع ذلك لا يزال كثير من الذين يعيشون بعيدا عن أتون الحرب ونيرانها يصفون لنا الفعل العراقي اليومي، بأنه وحشية تكشف عن حاجة العراقيين والعرب عموما إلى حاكم مستبد، يقدمون هذا باعتباره قولا فصلا، ثم يعودون إلى حياتهم اليومية غير مكترثين لما يحصل . بالنسبة لي، أكتوي بنار العراق كل يوم، حاولت جاهدا نسيان ما حدث وفي النسيان نعمة ورحمة، لكن العراق يسكنني، أدرك أنني خارج العصر والأحداث لجهة استيعاب ما حدث.. ولكن كيف لي القبول بوضع مأساوي رجحت فيه كفة القوة، وقبل فيه الضعفاء أن يؤدوا أدوارا ما تدبّروا تأثيرها المستقبلي، غير مكترثين بمرجعية التوحيد لحساب مصالح السياسة . مهما يكن، فإن احتلال العراق يمثل بداية النهاية لعهود الاستقلال الوطني العربي، التي لم ننعم بها إلا قليلا، الأمر الذي لم تجسده الكتابات، حيث ظلت رؤى الباحثين غارقة في نتائج الفعل الأمريكي، لكنها لم تؤسس لأيديولوجية ذلك الفعل وفلسفته، سواء لجهة تحديد القوة ومصادرها، أو الكشف عن الضعف وموطنه بما في ذلك النتاج الأدبي والمعرفي لتك الحرب من طرف العراقيين أنفسهم، حيث تمّ »التأريخ« للحرب من بداية الغزو إلى نهايته في مرحلته الأولى في التاسع من أفريل 2003، ولكنه لم يقف أمام محطات بعينها تبدأ من المعركة الأولى في »أم قصر« بين الوطنيين العراقيين وقوات التحالف، مرورا بحرب الفلوجة، التي اشترك فيها تحالف السلطة العراقية مع قوات الاحتلال لمحاصرة جماعة ما ابتغت غير التحرير سبيلا، وصولا لما يحدث هذه الأيام، لأن الحرب لم تضع أوزارها بعد. الرأي السابق كان سيظل حكما عاما في حدود قراءاتي ومتابعاتي لما يجري في العراق لولا الطرح النوعي الذي تقدّم به الدكتور فاتح عبد السلام في كتابه الجديد »العقل المختل.. نقد الذات بين 11 سبتمبر وحرب العراق«، فقد أخرجنا فيه من ضيق الكم إلى رحابة النوع، عبر سؤال يمثل إشكالية حقيقية للآخر أولا ولعلاقتنا نحن معه سواء، أكانت قبولا أم رفضا .. إنه يباغتنا في مدخل الكتاب وفي الصفحة الأولى منه، في أول عنوان، بسؤال : كيف تقاس القوة؟ ثم يتبعها بما سمّاه »اصطفاف الأعلى مع الأدنى«، راويا تجربة إنسانية لطبيب عراقي »ناجي عبد الرحمن« وهو واحد من أشهر أطباء الأطفال، حيث قضى سبعة وأربعين سنة من حياته مزاولا لمهنة الطب في مدينة الموصل، وقد اغتيل من طرف القوات الأمريكية لأنها أرادته أن يشطب تاريخه ونمط حياته الشخصية، ويعيد إنتاج نفسه في حركته اليومية على وفق متطلبات حربية يفرضها الجندي الأمريكي، وأوامر الحرب التي يعمل بها داخل المدن العراقية أو حولها . قصة الدكتور ناجي يرحمه الله هي في عمومها قصة العرب والمسلمين جميعا في نظرة الغرب إليهم، لجهة إعادة تأهليهم مع ما تتطلبه النظرة الغربية لنمط حياتنا في المستقل، وفي بعدها الإنساني يعوّل عليها لفكّ طلاسم العلاقة المبهمة لديمقراطية تأتي بالقوة لتقضي على المنجزات الحضارية والمعرفية والثقافية السابقة لها، ويبدو أن الدكتور فاتح عبد السلام قد بدأ منها بهدف الوصول إلى الآخر، أولا باعتبار أن القضايا الإنسانية تجذبه أكثر من غيرها، ولأنه ثانيا المسؤول الأول عن الحرب ونتائجها، وإذا كان هذا هو المقصود، فقد أَختلف معه الكاتب، لأن صانع القرار في الغرب يهمه بالأساس مجتمعه ولا يعنيه الآخرون، حتى عندما يرحل إليهم محاربا من أجل التبشير، أو التطبيق الحرفي للديمقراطية، لكن لا شك أن الدكتور عبد السلام محقّ في طرح هذا على الرأي العام الغربي. إذن، الحالة العراقية في موجة الطغيان الأمريكي هي حالة خاصة، لجهة التضحيات التي قدمها العراقيون والتي فاقت خلال سنواتها السبع الماضية، مع ما تم تقديمه خلال حروب التحرير والثورات العربية، غير أنها من جهة أخرى هي حالة عربية عامة، سيؤول مصيرنا إليها وإن طال الزمن، خصوصا إذا نظرنا إلى المساحة المشتركة بيننا على أساس الميراث الديني وحتى القومي، بالرغم من أن الولاياتالمتحدة، بعد احتلالها للعراق كما ذكر الدكتور فاتح ذهبت إلى »تكييف أساليب تحركها مع التيارات الإسلامية والمتطرفة في المنطقة، إما لعدم ليبراليتها أو لاتهامها بدعم الإرهاب، كما هي الحال مع سوريا، ومن ثم فإن الذي حصل هو مزيد من توكيد الحكم الديني في العراق على خط قريب من إيران، وفي منطقة من السهولة أن تشعل فيها فتاوى دينية حروبا أهلية أو إقليمية. كتاب »العقل المختل« يحتاج إلى قراءة متأنية وواعية لأنه يعد بيانا لنا جميعا، وقبلنا الولاياتالمتحدة التي لم تختبر نفسها لجهة تقديم إجابة لسؤال جوهري يتعلق بوجودها وعلاقتها بالدول الأخرى، والسؤال هو: هو كيف تقاس القوة؟ مثلما يوجّه لنا ولها سؤال آخر: كيف يقاس الضعف؟ وقد التقط الكاتب أكثر من صورة مجسمة للعلاقة بين العرب والآخر، في معرض الإجابة عن السؤالين عبر مشهد عريض وساخن، طرفاه أحداث الحادي عشر من سبتمبر واحتلال العراق، وقد أوجد هذا عبر رؤية الكاتب لمنظومة القيم التي يقوم عليها الفعل السياسي ومسوّغاته الفكرية والدينية والاجتماعية، وهذا كله في إطار العقل المختل، الذي هو عبارة عن توصيف وتشخيص لما يحدث وما يمكن حدوثه في الأفق بين رئيس رحل ورئيس جديد، يطرح على العالم رؤية جديدة، يصعب عليها التخلص من ميراث الحقبة الماضية. من ناحية أخرى، فإن كتاب العقل المختل، لا يمكن قراءته دون التسلح بمعرفة التاريخ والصراع الدولي والميراث الفكري لأمتنا وللعالم، وعناوينه ضمن فصوله الثمانية تدل على هذا، ولا يكمن للقارئ التعويل على هذا العرض للقول بالحصول على فكرة واحدة من جملة أفكار طرحها الكاتب . بقي أن أشير إلى فكرة طرحها الكاتب في المقدمة وتتعلق ب»العلاقة الجديدة التي يمكن أن تنقل الولاياتالمتحدة إلى منطقة الأمن والآمن، وتتجسد في أنه إن كان لابد من اصطفافات، فإن الأمريكيين عليهم الاصطفاف مع الدول والشعوب الأصغر في إطار البحث عن سلام وتنمية وديمقراطية«، لكن الكاتب ذكر أن هذا يتعارض مع فكر مروجي الحرب لتغيير الشرق الأوسط، وأتصور أنه يتعارض أيضا مع رؤى وأفكارأنظمة وجماعات وشعوب المنطقة، ولكل منها حساباته وأسبابه الخاصة، وبالرغم من هذا كلّه فالتغيير المقبل في المنطقة سيكون من العراق، وبدايته على مستوى التنظير من هذا الكتاب الذي نقرأه هذا اليوم .. إنه يعيدنا بوعي أو بدونه إلى مدارس العراق الأولى في اللغة والنحو والفقه والفلسفة .