أهدى الوزير الأسبق للتربية الوطنية مصطفى بن عمر 90 مخطوطا نادرا يعود تاريخ تأليفها إلى قرون خلت للمكتبة الوطنية حيث تسلّمها أمس قانة ياسر عرفات المدير العام بالنيابة للمكتبة الوطنية. وتُعدُّ هذه المخطوطات من الكنوز النادرة التي سيستفيد منها الباحثون الجزائريون بعد تقييدها ضمن ملكية المكتبة الوطنية، كما ستزيد من رصيد قسم المخطوطات بالمكتبة. في هذا الحوار الذي أجرته الشروق مع وزير التربية الأسبق مصطفى بن عمر حديث عن أهمية هذه الخطوة والهدف منها، وكذا عن أهمية المخطوطات المسلّمة وتاريخ تأليفها والإشارة إلى البعض منها مع إبراز قيمتها العلمية بالنسبة لتوثيق تاريخ الجزائر في تلك الفترة.. ما الهدف من تنازلكم عن هذه المجموعة المهمة من المخطوطات لصالح المكتبة الوطنية؟ تسليم 90 مخطوطة للمكتبة الوطنية يهدف بالدرجة الأولى إلى ضرورة وحتمية جمع الميراث الثمين وأخذ التدابير لحمايته من الضياع والإتلاف كما حدث بالنسبة للكثير من الوثائق التي تبعثرت وضاعت بسبب عرضتها لفعل الحشرات تحت طائل اللامبالاة من أصحابها إلى أن ضاع محتواها من علوم مهمة أمضى مؤلفوها سنوات من أعمارهم لتأليفها وتمت المحافظة عليها على مدى قرون من الزمن إلى أن وصلت إلينا. المراد الآخر من هذه المبادرة يرمز إلى تشجيع من لديه مخطوطات أن يتكرّم بها للمكتبة الوطنية بغية تأمينها ورعايتها ضمن مصلحة المخطوطات التابعة للمكتبة الوطنية لكي تتوسع حصيلتها ويزداد رصيدها من التراث المتواجد لديها والذي يبقى دائما محل إضافات وترميم، مع حتمية تصوير المخطوطات ليسهل للقراء والباحثين استغلالها، خاصة منها تلك التي لم يسبق أن حُقّقت نصوصها لتجنّب سرقتها. المخطوطات التي تم تسليمها للمكتبة الوطنية يتعلق جلُّها بأعمال مؤلفين جزائريين من رموز ومفخرة وطننا، وقد تداولوا على البحث والتأليف لعهود. اشتهر العشرات منهم بأعمالهم المتميزة مع الإشارة لمن كانوا سباقين في نشر العلم والمعرفة بداية من السنوات الأولى لدخول الإسلام وانتشاره عبر أرجاء الوطن ومنه إلى الأقطار المجاورة له. انطلق هؤلاء من مراكز السلطة والحضارة والمعرفة آنذاك كقلعة بني حمّاد وتيهرت أواسط الفترة الرستمية ثم قسنطينةوتلمسانوبجاية. هل لنا أن نعرف أكثر عن مؤلفي هذه المخطوطات المهداة للمكتبة الوطنية؟ القائمة ربما طويلة نوعا ما، لكن لنذكر البعض من المؤلفين وبخاصة الذين تميّزوا عن غيرهم بمسيرة علمية أو سياسية أو الاثنين معا مثل ابن أبي ذَر المعروف بالقلعي نسبة إلى قلعة بني حمّاد والذي اشتهر على أنه بحر في علم الحساب. توجّه هذا العالم إلى المشرق أواسط القرن الخامس الهجري، ومن هناك إلى خراسان وآسيا المسلمة التي كانت موطنا للرياضيات وعلوم الفلك وبقي بها إلى أن مات. شخصية بارزة نوّرت الأدب والتاريخ الجزائري العربي تمثلت في أحد مشاهير المسيلة، ألا وهو الحسن ابن رشيق الذي امتزج اسمه بمدينة القيروان التي نزل بها وأحبها واندمج فيها بين علمائها إلى درجة أننا لم نجد أفضل وأجدر منه للحديث عنها وعن أهلها. كان ابن رشيق شاعرا بارعا متمكّنا في جميع أنواع الأدب، وكان شعره وأسلوبه في الكتابة يتميّز بالأناقة إلى أن وصفت هي أيضا بالرشاقة. شاء القدر أن يضطر ابن رشيق إلى مغادرة القيروان تاركا وراءه سنوات حافلة بالأحداث الثقافية والسياسية في ظل ورعاية الأمير الفاطمي المعز لدين الله. اضطر ابن رشيق لمغادرة القيروان في اتجاه صقلية ابتعادا من المناوشات والاضطرابات التي نشبت فيها وقطع البحر ليحط الرحال في صقيلة بمدينة صغيرة تسمى إلى يومنا هذا "مازرة" (مزرعة في الأصل) والمتواجدة جنوب غربي الجزيرة حيث استقر فيها لسنين ودفن فيها عام 463 من الهجرة النبوية. المخطوط الذي هو من تأليفه والذي يسلم للمكتبة الوطنية هو في الحقيقة الجزء الأول من "معالم الإيمان في أسماء رجال القيروان"، مع الملاحظة أنني لم أجد هذا العنوان ضمن قائمة تآليف ابن رشيق، لكن المخطوط هذا يبيّن الكثير عن مسيرة عقبة بن نافع رضي الله عنه وعن الغزوة التي قام بها عبر إفريقيا وما سُمّي بعد ذلك بالمغرب العربي. اختلفت الأقدار والمسارات لآخرين من قلعة بني حمّاد كابن الرمامة أبو عبد الله القيسي الذي تولى القضاء بفاس وعبد الله المسيلي الذي تولّى من جهته نفس المهمة لكن بسبته قرب طنجة المغربية، وكان ذلك في النصف الأخير من القرن الخامس للهجرة. وما دمنا في الحديث عن الرحالة من الأعلام الجزائريين، فلنذكر تلك الرحلة التي قادت أبي العباس بن قنفد صاحب المعارف الواسعة في اللغة والحديث وعلم الفلك إلى مراكش التي تولّى هو أيضا القضاء بها وبمدن أخرى في المغرب الأقصى حيث مكث قرابة عشرين عاما قبل أن يرجع إلى قسنطينةمسقط رأسه. مشايخ آخرون من بلادنا اتّجهوا إلى الأندلس على غرار الحسن بن علي بن طريف التهرتي الذي انتهى به الأمر في قرطبة حيث تولى الإمامة بأحد مساجدها ولم يغادر المدينة العريقة ودفن هناك. عندما ننظر للدور العلمي الكبير الذي لعبته تلك الطبقة من علمائنا عبر القرون، وحجم ما ألفوه ندرك مدى التقصير الذي ارتكب في حقهم، لأننا لم نذكر أسماءهم إلا عند وضعها في فهارس الكتب بينما لم يخف المشارقة إعجابهم بما استنتجوه من مؤلفاتهم التي درست وحققت وشرحت قديما وحديثا من لدن أشهر مشايخ الفقه واللغة في العديد من أقطار العالم العربي والإسلامي وحتى الغربي. هل بإمكانك أن تذكر لنا ولو بعض المخطوطات المهداة من طرفكم إلى المكتبة الوطنية؟ من ضمن المخطوطات التي أتنازل عنها لصالح المكتبة الوطنية أودُّ أن أذكر أولا مخطوط نسخ سنين قليلة بعد وفاة الإمام العلامة سيدي عبد الرحمان الثعالبي، وكوني أذكره في الطليعة لا يعني أنّ الثعالبي هو أقدم أعلام الجزائر، لكن تأليف الثعالبي هذا هو تفسيره للقرآن العظيم المعروف بجواهر الحسان، وهل هناك اختيار أفضل من أن نضع كتاب الله في طليعة القائمة؟ السبب الثاني في هذا الاختيار يرجع للتقاليد المعمول بها لدى الأشراف عند تواجدهم بمدينة ما أن يتباركوا بوليّها الصالح، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بعلامة من حجم الثعالبي دفين الجزائر المحروسة رحمه الله ونفعنا ببركاته آمين. تفسيره هذا لكتاب الله العزيز من ألطف ما يوجد من تفاسير، وقد أكد الثعالبي بنفسه أنه اعتمد قبل أن يحرّره على التدقيق والتحقيق مع قرابة المائة من التآليف الأخرى، مركّزا بالخصوص على أعمال ابن عطية و"محوره الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" وعلى تفسير الطبري أيضا. فالنتيجة تبرز مباشرة ومن الأسطر الأولى للكتاب بحيث يلاحظ القارئ أسلوب الثعالبي في طروحاته وترتيب حججه التي تعمدها في الكتابة ليسهل للقارئ فهم نصوصه. كذلك كان الأمر بالنسبة للمخطوط الثاني المقدّم للمكتبة الوطنية، والذي هو من تأليف الثعالبي أيضا بعنوان "العلوم الفاخرة في أحوال الموتى والآخرة". يترك هذا الكتاب انطباعا خاصا وغريبا لدى قارئه، ولو اكتفى بالمقدمة وبجملة واحدة منها فقط، لوجد كم كان صدق وقرابة الرجل وإيمانه بالخالق وعن شعوره آنذاك عندما كتب "لما وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا وبلغت من السنين نحوا من ثلاثة وستين وعلمت النفس قرب الحمام منها علم يقين وأيقنت أنها راحلة في عسكر الراحلين سرعت في جمع كتاب أجعله تذكرة لنفسي... (، إلى آخره) وكان الثعالبي يكتب هذا حوالي سنة 849 هجري لكن الله سبحانه وتعالى شاء أن يمدّ في عمره بما يزيد عن الربع قَرن مما مكن الشيخ الهمام من تأليف العشرات من الشروح والبحوث القيمة، وكأنها أمطار خير نزلت على البلد والعباد وبورك بها في مجالس الفقه واللغة من آسيا الإسلامية إلى أقصى المغرب والأندلس. ومن المخطوطات الأخرى التي تسلم للمكتبة الوطنية نجد بينها ما يعود أيضا لأهل التصوف من تلمسان أو لمن نزل بها منهم واشتهر بها عبر تصانيفه في أصول الدين والحديث كصاحب العقيدة الكبرى والعقيدة الصغرى الإمام العلامة سيد العارفين محمد بن يوسف السنوسي الحسني الذي يعترف له عبر العالم الإسلامي بأجمله بأنه موسوعة فقهية في حد ذاته نظرا لأعداد وتنويع تآليفه في الشريعة واللغة والبلاغة ومن هناك إلى التفسير. واشتهر أيضا بتلمسان العشرات من العلماء والكتاب في أيام السنوسي وفي مقدمتهم محمد ابن مرزوق الحفيد وهو من عائلة مشهورة بعلمائها كوالده وعمه. لقد اتفق علماء عصره ومن أتوا بعد ذلك على أن ابن مرزوق كان أيضا بحرا في العلوم والمعرفة وبقي إلى يومنا هذا محل اهتمام ودراسة بين الطلاب والباحثين نظرا لواسع معرفته ودقته وتمكّنه في النحو واللغة، وهي كلّها أشياء تبرهن على جودة ونقاوة أعماله بدءا بشرحه للبردة الذي تسلم للمكتبة نسخة منه. ومعروف عن تلمسان أنها كانت تأوي لقرون مضت أعدادا وأعدادا من الفقهاء والأدباء قبل وبعد القرن التاسع هجري، أي فترة تواجد السنوسي بها وكذا ابن مرزوق، وازدهرت فيها العلوم بفضل أوجه أخرى لامعة كأحمد بن يحيي الونشريسي صاحب كتاب الوفيات مثلا وأحمد بن محمد المقري صاحب نفح الطيب وبلقاسم بن محمد البجاوي وسليمان بن حسن البزيدي التلمساني إلى غيرهم من فرسان المعرفة مما جعل تلمسان تنافس عن جدارة فاس المرينية وتونس الحفصية. وما دمنا نتكلم عن الغرب الجزائري فلنتوقف ولو قليلا بمعسكر والقلعة المحاطة بها ولنذكر من علمائها أبي رأس المعسكري الناصري وبعض مؤلفاته كالتي نتنازل عنها لصالح المكتبة الوطنية والمتمثلة في مخطوطين، واحد منهما في التصوف وعلم التوحيد، والثاني بخطه وهو "عجائب الأخبار ولطائف الأسفار". وما دمنا نتكلم عن ما ألف في منطقة معسكر، هناك مجلد يحتوي على عدد من المخطوطات منها واحدة ل "إظهار صدق المودة" يقول فيها عبد الله بن عاشر بن احمد بن محمد الأندلسي الشاطبي بأنه نسخها لشيخه أبي محمد عبد القادر بن يسعد صاحب قلعة بني راشد ودفين الدبة. لعل الكثير من القراء يجهلون أن شيخ بن عاشر كان ابن يسعد القلعي الراشدي وأنه عاش بجانبه بالقلعة. كان هذا الولي الصالح ابن يسعد معروف باهتمامه بالعلوم إلى درجة أنه كان يشجع مجيء الناسخين إلى القلعة لينقلوا له ولخزانته عشرات المخطوطات الأصلية، ولا غرابة إذا وجدنا من بين هؤلاء عالما مثل عبد الواحد ابن عاشر صاحب شرح "مورد الظمآن" بجانب ابن يسعد. ومن الغرب الجزائري إلى شرقه لنذكر بعض المخطوطات لمشاهير من بجاية ونواحيها وأول من يخطرون ببالي هم أسيادنا في التقوى والعلوم وفي طليعتهم الإمام يحيى بن عبد المعطي الزواوي الذي له مكانة خاصة عند المجتهدين للتعرف أكثر على شخصيته المرموقة وأعماله خارج ترتيبه للنحو على قالب شعري كما فعل ذلك في الدرة الألفية. يبقى إذا البحث جاريا لاكتشاف أعماله المفقودة عندما كان بمرسية في الأندلس وبمراكش عند تواجد الجزولي بها أواخر القرن السادس هجري. ومن المجلدات التي تسلم للمكتبة الوطنية هناك مخطوطات من أعمال عبد الرحمان الأخضري الذي يتفق جمع من العلماء المسلمين في المغرب والمشرق، على أنه من أنجب علماء المنطق حتى صار يوصف بأنه العالم الصوفي الذي تفوق حتى في عصره. من مخطوطاته الخمسة التي بحوزتي هناك ثلاثة منها تتمثل في شروح وحواشي على "السلم المرونق" الذي نال اهتمام الباحثين في جميع الأقطار العربية ومن الحواشي مما يدل على أهمية هذا الإنجاز. بقي السلم محل اهتمام ودرس إلى أيامنا هذه مما يدل علي مكانته العلمية وآخر ما وصلني من شرح هو للأخ أبو بكر بلقاسم الضيف مع شرح خصصه أخوه بشير الضيف لمختصر للأخضري في العبادات. أحد شروح السلم الذي بحوزتي يرجع للمحدث سعيد قدورة الذي يعتبر من أهم علماء الجزائر في القرن العاشر من الهجرة ولو أن أصله من جزيرة جربة، فهذا المخطوط كتب أواخر القرن العاشر والسعيد قدورة كان أيامها حيا يرزق مثله مثل الأخضري رحمهم الله تعالى جميعا وجعلهم محل رضوانه.
كما أهديت للمكتبة الوطنية أيضا نسخة جميلة من شرح "جوهر المكنون" للأخضري، كما صورنا نسخا من تلك المخطوطات وسلمناها للجمعية المتواجدة ببسكرة والتي يرأسها أحد أحفاده وهو السفير السابق الأخ علي الأخضري بمساعدة بعض الإخوة منهم الأخ عبد العزيز الزنداقي المدعو سليمان الذين قاموا بعمل جبار لترميم المسجد وضريح الإمام الأخضري وكذا القاعة التي تُعرّف بأعماله.