اتَّسم العلماء المسلمون بسمة مميِّزة ألا وهي موسوعيتهم، ففي كل فروع المعرفة صنَّفوا، وقلَّما اقتصر إنتاج العالم منهم على تخصُّص واحد، بل كان يتناول شتى فروع المعرفة في مؤلفاته، وإن كان بعضهم قد ذاع صيته في مجال مُعَيَّن، بجانب ما يُجِيد من المجالات الأخرى، ومن أشهر هؤلاء العلماء الذين نبغوا في علمي النبات والصيدلة العالم العبقري الفذُّ ابن البيطار، الذي يُعَدُّ رائدًا من رُوَّاد هذين العِلْمَيْن؛ لِمَا قدَّمه من إسهامات عظيمة غيَّرت مجرى البحث فيهما؛ لذلك قال عنه ابن أبي أصيبعة: (هو الحكيم الأجل العالم النباتي... أوحد زمانه، وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختياره، ومواضع نباته، ونعت أسمائه على اختلافها وتنوُّعها). * إبن البيطار هو أبو محمد ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي، نسبة إلى مدينة مالقة التي وُلِدَ فيها بالأندلس أواخر القرن السادس الهجري، وكان والده بيطريًّا حاذقًا؛ لذلك لُقِّبَ بابن البيطار -وهو لقب مشتقٌّ من كلمة عربية تعني ابن البيطري- نسبة إلى عمل والده. وفي صغره أحبَّ قضاء وقته في الغابة المجاورة لقريته، فترسَّخ في نفسه منذ الصغر حبُّ الطبيعة، وازداد تقديره لها، فكانت مراقبة (ابن البيطار) للتنوُّع النباتي والحيواني وراء حُبِّه لعلم النباتات؛ فكانت الغابة بمثابة أول مدرسة له في علم النبات، ثم تتلمذ ابن البيطار بعد ذلك على يد عالم إشبيلية أبي العباس أحمد بن محمد بن فرج النباتي صاحب الشهرة العظيمة في علم النبات، إلا أن ابن البيطار فاق أستاذه، بل امتاز في أبحاثه العلمية والتجريبية والتطبيقية على باقي عشَّابي زمانه. * صفاته ومناقبه جمع ابن البيطار بين عبقرية علمية فذَّة، وأخلاق فريدة رائعة قلَّما تُوجَدُ في غيره، وهذا ما شهد به كل من خالطه وعايشه، ومنهم ابن أبي أصيبعة الذي قال: (ورأيتُ من حُسْنِ عشرته، وكمال مروءته، وطيب أعراقه، وجودة أخلاقه ودرايته، وكرم نفسه، ما يفوق الوصف ويتعجب منه). * رحلاته العلمية كانت نفس ابن البيطار توَّاقة للعلم دائمًا، فرحل في بداية العشرينيات من عمره لطلبه، متحمِّلاً المشاقَّ في سبيل ذلك؛ حيث جاب بلاد اليونان والروم والمغرب، ومَرَّاكش والجزائر وتونس، ثم تابع جولاته منتقِّلاً إلى آسيا الصغرى مارًّا بأنطاكية، ومنها إلى سوريا، ثم إلى الحجاز وغزَّة والقدس وبيروت ومصر، وقد اجتمع مع علماء تلك البلاد فتدارس معهم أنواع النبات، وخواصَّه وفوائده، ولم يكتفِ بقراءة الكتب والمصنَّفات، فكان يدرس النبات في منابته، بل ويدرس الأرض التي تُنْبِته، وعن ذلك يقول ابن أبي أصيبعة: (شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرًا من النبات في مواضعه). ثم إستقرَّ إبن البيطار في مصر في عهد الملك الكامل، حيث عيَّنه رئيسًا للعشَّابين، وإعتمد عليه الكامل في الأدوية المفردة والنبات، وبعد وفاته خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب، فكان حظيًّا عنده مُتَقَدِّمًا في أيامه. إبداع إبن البيطار العلمي لم يُبْدِع ابن البيطار من لا شيء، بل اعتمد على مَنْ سبقه من علماء النبات والصيدلة وقرأ كتبهم، وفنَّد آراءهم بِنَاءً على تجارِبَ ومشاهداتٍ قام بها بنفسه، وهذا ما يؤكِّده ابن أبي أصيبعة الذي عايش ابن البيطار في ترحاله؛ حيث قال: (قرأتُ عليه تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس فكنتُ أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئًا كثيرًا جدًّا، وكنتُ أُحْضِر لدينا عدَّة من الكتب المؤلفة في الأدوية المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس والغافقي، وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفنِّ...). هكذا، نجد ابن البيطار قد نوَّع في مصادر عِلْمِه، حيث اطَّلع على كل ما تُرْجِمَ من كتب اليونانيين وعلوم الأوائل من غير العرب، وقد ساعده على ذلك معرفته بعدد من اللغات كالفارسية واليونانية. ولم يكتفِ ابن البيطار بذلك، بل واطَّلع على كل ما كتبه علماء المسلمين في هذا المجال، فدرس ما كتبه ابن سينا والإدريسي وابن العباس النباتي دراسة مستفيضة حتى أتقنها تمامًا، وشرح النقاط الغامضة فيها، ورغم إفادته من مؤلَّفات السابقين، إلاَّ أنها كانت موضع تصحيحاته، ونقده في كثير من الأحيان. وهذا ما دعا (راملاندو) في كتابه: (إسهام علماء العرب في الحضارة الأوربية) إلى القول بأن: (إسهام ابن البيطار في مجال علم النبات يفوق إنتاج السابقين من ديسقوريدس إلى القرن العاشر الهجري). كما يذكر (الدومييلي) في كتابه: (العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي) أن ابن البيطار (كان مشهورًا بأنه أعظم النباتيين والصيدليين في الإسلام، مع العلم أن مؤلَّفاته تعتمد على كتب السابقين له، فقد سجَّلت في جملتها تقدُّمًا بعيد المدى). وقبل الحديث عن مؤلَّفات ابن البيطار الرائدة يجب أن نُلْقِيَ نظرة شاملة على تطوُّر علم الطبِّ وعَلاقته بالصيدلة خاصَّة في القرنين السادس والسابع الهجريين، لأن لذلك التطوُّر أثره على إبداعات إبن البيطار فالإنسان صناعة عصره، حيث شهد هذان القرنان بناء العديد من المستشفيات وظهور الإكتشافات الطبِّيَّة الجديدة، مثل إكتشاف الدورة الدموية لابن النفيس.. كما ظهرت أيضًا الصلة الوثيقة بين الصيدلة والطبِّ؛ حيث كان الطبيب يُعِدُّ أدويته بنفسه كما نجد ذلك عند ابن سينا، الذي خصَّص بعض أجزاء من كتابه (القانون) لدراسة الأدوية والعقاقير المهمَّة، التي يَعْتَمِد عليها في علاجه، في هذا الجوِّ العلمي الرائع ظهرت مؤلَّفات ابن البيطار الرائدة في علم النبات والصيدلة؛ منها كتابه: (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) الذي ألَّفه بعد دراسات عملية، قائمة على التجربة والمشاهدة كأساس لدراسة النبات والأعشاب والأدوية، وقد شرح في مقدِّمة كتابه المنهجَ الذي اتَّبعه في أبحاثه قائلاً: ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لديَّ بالمخبر لا بالخبر أخذتُ به، وما كان مخالفًا في القوى والكيفية والمشاهدة الحسِّيَّة والماهيَّة للصواب نبذْتُهُ ولم أعمل به. وقد بيَّن ابن البيطار في كتابه (الجامع في الأدوية المفردة) أغراضَه من تأليف هذا الكتاب، ومنها يتجلَّى أسلوبُهُ في البحث، وأمانته العلميَّة عند النقل، واستناده على التجربة كمعيار لصحَّة الأحكام، ثم بيَّن غرضه من تأليف هذا الكتاب فقال: (إستيعاب القول في الأدوية المفردة، والأغذية المستعملة على الدوام والإستمرار عند الإحتياج إليها في ليل كان أو نهار، مضافًا إلى ذلك ذكر ما ينتفع به الناس من شعار ودثار، وإستوعبت فيه جميع ما في الخمس مقالات من كتاب الأفضل ديسقوريدوس بنصِّه، وكذا فعلت أيضًا بجميع ما أورده الفاضل جالينوس في الستِّ مقالات من مفرداته بنصه، ثم ألحقتُ بقولهما من أقوال المُحْدَثِين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكراه، ووصفت فيها عن ثقات المُحْدَثِين وعلماء النباتيين ما لم يصفاه، وأسندتُ في جميع ذلك الأقوالَ إلى قائلها، وعَرَّفْتُ طُرُقَ النقل فيها بذكر ناقلها، واختصصتُ بما تمَّ لي به الإستبداد، وصحَّ لي القول فيه ووضح عندي عليه الإعتماد). كما رتَّب ابن البيطار مفردات كتابه ترتيبًا أبجديًّا، مع ذكر أسمائها باللغات المتداوَلَة في موطنها، ويقول (جورج سارتون) عن هذا الكتاب: (وقد رتَّب ابن البيطار مؤلَّفَه الجامع في الأدوية المفردة ترتيبًا يستند على الحروف الأبجديَّة، لِيَسْهُلَ تناوله، وقد سرد أسماء الأدوية لسائر اللغات المختلفة، وإعتمد علماء أوربا على هذا المؤلَّف حتى عصر النهضة الأوربية). كما دوَّن ابن البيطار أيضًا الأماكن التي يَنْبُتُ فيها الدواء، ومنافعه وتجاربه الشهيرة، وكان يُقَيِّد ما كان يجب تقييده منها بالضبط والشكل والنقط تقييدًا يضبط نُطْقَهَا، حتى لا يقع الخطأ أو التحريف عند الذين ينسخون أو يطَّلعون عليه، وذلك لأهمِّيَّة الدواء وتأثير الخطأ على حياة الناس. كما إنه دوَّن فيه كل الشروح والملاحظات المتعلِّقَة بتخزين النباتات وحفظها، وتأثير ذلك على الموادِّ الفعَّالة والمكوِّنات الغذائيَّة الموجودة فيها. وقد إحتوى كتاب إبن البيطار على شروح مفصَّلة لعدد كبير من الأدوية، بلغ 1400 دواء بين نباتي وحيواني ومعدني، ومنها 300 دواء جديد من ابتكاره الخاصِّ، معتمِدًا على مؤلَّفاتٍ أكثر من مائة وخمسين كتابًا، بينها عشرون كتابًا يونانيًّا، وقد بيَّن الخواصَّ والفوائد الطبِّيَّة لجميع هذه العقاقير، وكيفية إستعمالاتها كأدوية أو كأغذية. وقد تُرْجِمَ (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) إلى عدَّة لغات، وكان يُدَرَّس في معظم الجامعات الأوربية حتى عهود متأخِّرة، وطُبِعَ بِعِدَّة لغات وبِعِدَّة طبعات، وفي اللغة العربية طُبع عام (1874م) بمصر في أربعة أجزاء، ونشرته دار صادر في بيروت عام (1980م) في مجلَّدين، ويوجد العديد من المخطوطات لهذا الكتاب مُوَزَّعة في عدد من مكتبات العالم ومتاحفه. وهناك كتاب آخر يُعَدُّ من إبداعات ابن البيطار العلمية، ألا وهو كتابه: (المغني في الأدوية المفردة)، الذي قسمه إلى عشرين فصلاً، يحتوي على بحث الأدوية التي لا يستطيع الطبيب الإستغناء عنها، ورتَّبت فيه الأدوية التي تُعَالِجُ كل عضو من أعضاء الجسد ترتيبًا مبسَّطًا، وبطريقة مختصرة ومفيدة للأطباء ولطلاب الطبِّ. وقد اتَّسم أسلوب ابن البيطار العلمي بالنزعة النقدية، مع التزامه الكامل بالموضوعية والنزاهة العلمية، ويتَّضح ذلك من خلال مناقشته لآراء السابقين عليه من العلماء والأطباء والعشَّابين، فلقد نقدهم في عدَّة أمور، وكان نقده بَنَّاءً، فهو يرفض الآراء التي يَثْبُتُ أن ناقلها قد إنحرف عن سواء السبيل ومنهج العلماء السليم، أو لأنها لم تَثْبُتُ أمام مقاييسه العلمية التي يعتمد عليها، وهو لا يكتفي برفضها، بل إنه يتجاوز الرفض إلى توجيه النقد الشديد إلى الناقل أو القائل، لأنه إفترى على الحقِّ. وأكبر دليل على نزعته النقدية كتابه: (الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام)، الذي نقد فيه كتاب (منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان)، وهو الكتاب الذي جمع فيه إبن جزلة (ت493ه) الأدوية والأغذية والأشربة، حيث نبَّه ابن البيطار على أخطائه، وما غلط فيه من أسماء الأدوية، حيث يقول في مُقَدِّمَتِه: (أمَّا بعد فإنه ما أشار عليَّ -مَنْ خَلُصَتْ بإرادة الخير لي نِيَّتُه، وندبني إلى ما رجوت- أن أتعرض لبعض الكتب الموضوعة في الحشائش والأدوية المفردة، فأستطلع بسائط أدويته، وأتعقب ما جرى فيها من التباس أو غلط، وأُعْلِمُ بما وقع فيه من الأوهام في الأسماء والمنافع، فوضعتُ في ذلك مقالة تشتمل معناها على وفاء المقصود، معتمِدًا على يقين صحيح، أو تجربة مشهودة، أو علم متحقّق). وله أيضًا في ذلك كتاب: (شرح أدوية كتاب ديسقوريدس)، وهو عبارة عن قاموس بالعربية والسريانية واليونانية والبربرية، وبه شرح للأدوية النباتية والحيوانية، وله أيضًا (الأفعال الغريبة والخواص العجيبة). * آراء علماء الغرب فيه لقد شهد العديد من علماء الغرب بعبقرية ابن البيطار العلمية؛ حيث تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه: (إن ابن البيطار من أعظم عباقرة العرب في علم النبات، فقد حوى كتابه: (الجامع) كل علوم عصره، وكان تحفة رائعة تنمُّ عن عقل علمي حيٍّ، إذ لم يكتفِ بتمحيص ودَرْس وتدقيق 150 مرجعًا من سالفيه -الذين إعتمد عليهم في بحوثه- بل إنطلق يجوب العالم بحثًا عن النباتات الطبية، فيراها بنفسه ويتيقَّن منها، ويُجْرِي تجارِبه عليها، إلى أن وصل به الأمر ليبتكر 300 دواءٍ جديدٍ من أصل 1400 دواء التي تضمَّنها كتابه، مع ذكر أسمائها، وطرق استعمالها، وما قد ينوب عنها، كل هذا عبارة عن شواهد تُعَرِّفُنا تمامًا كيف كان يعمل رأس هذا الرجل العبقري). كما يصفه المستشرق ماكس مايرهوف فيقول: (إنه أعظم كاتب عربي خُلِّد في علم النبات)، ويعترف جورج سارتون بقيمة كتابه (الجامع في الأدوية المفردة) قائلاً: (إنه خير ما أُلِّف في هذا الموضوع في القرون الوسطى، بل إنه لأضخم نتاج من نوعه منذ ديسقوريدس حتى منتصف القرن السادس عشر). * وفاته توفِّي إبن البيطار -رحمه الله- بدمشق سنة (646ه/ 1248م)، ولكن ما زالت آثاره باقية حتى الآن، شاهدة على عبقريته العلمية النادرة.