مما يُؤسف له أننا شوّهنا كثيرا من مبادئ ديننا الحنيف بالتعطيل، أو بالتحويل، أو بالتأويل. فكنا بهذا التشويه أكبر الجناة على هذا الدين. من التشويه الذي ألحقناه نحن المسلمين بهذا الدين القيّم أننا حوّلنا رمضان من شهر نتحكم فيه في شهواتنا، ونُلجم فيه غرائزنا إلى شهر ننغمس فيه في المآكل والمشارب، وصار توفير كميات كبيرة من الطعام في رمضان من أكبر المشكلات التي تواجهها الحكومات، وتتجنّد لها المؤسسات. * وقد أكدت الإحصائيات أن استهلاك المواد الغذائية يتضاعف في شهر رمضان، وذلك هو عكس الحكمة من صيام رمضان، حيث بيّنت البحوث وأثبتت الدراسات أن الصيام من أفضل السبل لمعالجة ما يصيب الجسم من أدواء بسبب الأكل، ولهذا سمّى بعض الحكماء شهر رمضان »الشهر الصّحِّي« مصداقا لحديث الصائم الأمثل عليه الصلاة والسلام: »صُومُوا تصحُّوا«. * إن المأدبة الحقيقية التي يجب أن نقبل عليها بشراهة، وأن نتناول ما عليها بِنَهَمٍ دون خوف من أية أعراض هي مأدبة القرآن الكريم. * إن وصف القرآن الكريم بالمأدبة ليس من عند عالم يخطئُ ويصيب، أو شاعر يَسْبَحُ في أجواء الخيال، أو فيلسوف يمارس ترَفا فكريا؛ ولكنه وصْفٌ ورد على لسان من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: »إن هذا القرآن مأدُبَةُ الله، فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم...«. * إن الاستطاعة هنا ليست الاستطاعة المادية؛ ولكنها استطاعة الإرادة القوية والعزيمة الصلبة في الإقبال على القرآن الكريم، تلاوة لآيِه، وتدبّرا في معانيه، واستِكْنَاهاً لأسراره، وتطبيقا لأوامره، واجتناباً لنواهيه، ولهذا فالناس أمام هذه المأدبة أزواج ثلاثة: مقبل متلهف عليها، ومدبر معرض عنها، وعَوَانٌ بين ذلك. * إن ميزة هذا الشهر الكريم وفضله على غيره من الشهور هو نزول هذا القرآن العظيم فيه. وقد نصّ الله عز وجل على ذلك بقوله: »شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن« ووصف الليلة التي أنزله فيها بأنها »مباركة« وأنها »ليلة القدر« أي الشرف، والعظمة، والشأن، وجعلها خيراً من ألف شهر، أي خيرا من حوالي 83 سنة، ولهذا قال أحد الحكماء الذين يغوصون على جواهر المعاني: »إن أعظم هدية حملها رمضان إلى البشرية جمعاء هي القرآن«. والدليل على أنه للبشرية جمعاء هو قوله تعالى: »شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس...«... ولكن الناس أمام هذا القرآن فريقان: فريق يؤمن به، ويهتدي به، فهو على نور من ربّه؛ وفريق يكفر به، ويعرض عنه، ويستحب العَمَى على الهدى، فهو في معيشة ضَنْك، وحُشِرَ يوم القيامة أعمى. * إن هذا الشهر الكريم فرصة ثمينة علينا أن نستغلها أحسن استغلال بالإقبال على هذا القرآن، تلاوة له بألسنتنا، وإنصاتاً له بآذاننا، وتدبّرا له بعقولنا، واهتداءً به في مآتينا ومتاركنا... فإن لم نفعل فمثلنا كمثل من جلس إلى مائدة ملآى بما لذّ وطاب من مآكل ومشارب ولكنه لم يتناول منها شيئا، فهل يحسّ لذّتها، وهل ينتفع بها جسمُه؟ * فاللهم أهلّ شهر رمضان على المسلمين باليُمْن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى من صادق الأقوال وصالح الأعمال.