أكد المؤرخ محمد عباس أن كتابه عن الراحل عبد الحميد مهري هو "شهادة" وليس "مذكرات" وأشار إلى رفضه كتابة مذكرات الرئيسين الراحلين علي كافي والشاذلي بن جديد. وكشف في لقاء مع الشروق أهم الإضافات التاريخية التي قدمها حكيم الافلان حول "مؤتمر طرابلس" و"مؤتمر طنجة" إضافة إلى تفاصيل كثيرة في هذا الحوار . فرغت من توثيق شهادة الراحل عبد الحميد مهري منذ سنوات ولكنها لم تر النور بعد.. ماهي أسباب التأخر؟ الكتاب جاء في إطار سلسلة كتب يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية فيما ما معناه "التاريخ بلسان رجاله" . وفي هذا الإطار اقترح علي الوزير السابق الدكتور علي بن محمد تسجيل شهادة عبد الحميد مهري، رحبت بالفكرة واشتغلنا بناء على ذلك أنا والمرحوم لفترة قاربت السنة . كيف تعامل مهري مع أسئلة الجلسات ؟ والى أي مدى مارس "الرقابة الذاتية" في تعاطيه مع مختلف المراحل التاريخية؟ سجلت شهادته من فترة طفولته إلى غاية استقلال الجزائر 1962 في إطار تخصصي ووفق منهجية علمية بتقسيم العمل إلى محاور رئيسية وكل محور إلى فصول حسب الحدث. كنت قد التقيته في جلسات علنية بالمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر بالأبيار. وكان المركز قد اعد العدة لتسجيل الجلسات بالصوت والصورة إلا أن مهري رفض ذلك . كنا نعقد جلسات حول محاور وكل محور افرغ من تحريره أسلمه للراحل ليطلع عليه ويراجعه ثم يقدمه للطباعة. وعندما وصلنا إلى مرحلة التنقيح والإثراء مرض سي مهري ورفض الإجابة على أسئلة كثيرة وتحفظ رغم إلحاحي عليه. هل حال المرض دون تسجيل شهادات مهمة ؟ للأسف نعم .. لم نسجل شهادته حول قضية عبان رمضان مثلا وهي شهادة مهمة جدا وكانت ستضيء زاوية من تاريخ ثورتنا. فالمعروف أن لجنة التنفيذ والتنسيق كانت تضم أربعة سياسيين مهمين وهم عبد الحميد مهري ولمين دباغين وفرحات عباس وعبان رمضان . فرحات عباس سجل شهادته فيما رفض دباغين ذلك وكانت شهادة مهري ستكون إضافة مهمة جدا. هل رفض تقديمها بسبب المرض أم لأسباب أخرى؟ مهري في أيامه الأخيرة أصبح معقدا من اعتماد الشباب على الإثارة التاريخية وكان يرى أن الكلام في الأمور الخلافية يسيء للثورة.. فرغت من الكتاب وسلمته إلى نجله سهيل الذي حجزه ولم ير النور بعد بل واعتبره مذكرات رغم إلحاحي على أن الكتاب شهادة. يقول نجل مهري أن العمل كان منظما ومنهجيا ولكنه أراد أن يثريه بوثائق هنا مربط الفرس .. أعطيت العمل لنجله بهدف تزويده بما يكفي من الوثائق وإكمال النقائص. كان من المفروض أن يصدر في الذكرى الأولى لوفاة مهري ولكن ابنه أبدى – كما قلت - ملاحظات فسلمت له نسخة عن العمل إضافة إلى أشرطة مسجلة بصوت والده وهي من حقه لأنها ميراث العائلة. من المفروض أن يتدخل علي بن محمد لتسليم العمل إلى مركز الدراسات ليصدر قريبا. إذا هي ليست مذكرات عبد الحميد مهري؟ أنا لا أكتب مذكرات أنا كاتب محترم، ولست سكرتيرا وكان الرئيس الراحل علي كافي قد طلب مني كتابة مذكراته ورفضت وعرض علي البعض أن اكتب مذكرات الشاذلي بن جديد ورفضت رغم أني كنت مؤهلا للعمل لعدة اعتبارات أهمها معرفتي الجيدة بالمنطقة وبتاريخه أي كانت عندي الخلفية الكافية. أؤكد أن الكتاب كما اتفقنا عليه مع الراحل ومع علي بن محمد هو مجموعة مقالات محررة بناء على محاور تضمنت أسئلة مهمة. ماهي أهم الإضافات التاريخية التي تضمنها العمل؟ العمل فيه إضافات مهمة وسي مهري يدقق كثيرا في ما يقول وفيما اكتبه فيما بعد الجديد هو نقطنان مهمتان. فمن الشائع أن مؤتمر طرابلس صادق على برنامج طرابلس والحقيقة هي أنهم لم يتفقوا على النص النهائي وكانت فيه الكثير من الإثراءات والمداخلات وخلصوا إلى وضع لائحة تنص على أن هذا الموضوع في حاجة إلى مؤتمر آخر في الجزائر العاصمة. صادقوا على لائحة وليس على برنامج، أما جماعة المكتب السياسي اعتبرته نصا جاهزا واستغلته لكسب الشرعية. بن بلة وجماعته وقتها كانوا مسيطرين دعائيا وسياسيا وعسكريا، وكان لن بلة هالة كبيرة في الداخل والخارج فانكمشوا جميعا ومنهم مهري الذي لم يدخل إلى الجزائر حتى بعد أشهر. علي هارون كان مسايرا رغم انه كان محاميا، إلا انه لم يصحح هذه المغالطة وقد سالت المؤرخ محمد حربي لأنني سمعتها فقط من مهري فأكد لي أن مؤتمر طرابلس أفرز لائحة مؤقتة لضيق الوقت وتشعب الاقتراحات والمطالب على أساس أن يعاد النظر فيها في لقاء آخر. وما الإضافة الثانية؟ قضية الحدود مع المغرب.. يقول مهري إنه عشية مؤتمر طنجة عندما التقى الوفد الجزائري الذي يترأسه فرحات عباس بالملك الحسن الثاني طرح هذا الأخير الإشكالية بواقعية فيما ما معناه "لا يهمني من يعطي البطاقة لجماعة الحدود سواء كنا نحن أم انتم.. المهم أن نستغل المناطق الحدودية بطريقة مشتركة، إذا اتفقنا على قضية الاستغلال المشترك للمناطق الصحراوية لا نطرح مشكل الحدود وإذا لم نتفق فسنطرح المشكل". وهذه المعلومة غير معروفة تاريخيا. هل قدم توضيحات لبعض القرارات المهمة التي اتخذها من عدة مواقع؟ بعد دخوله إلى الجزائر ثلاثة أشهر بعد الاستقلال عرضوا عليه منصب سفير في المغرب ولأنه كان داهية سياسيا وذكيا جدا اعتذر و فضل البداية من الصفر. طلب أن يشتغل كأستاذ في عمارة رشيد قبل أن يلتحق بمدرسة المعلمين ببوزريعة . وقال مهري سعد دحلب الذي قبل المنصب واجه الكثير من المشاكل بعدها مهري صاحب تربية حزبية نضالية أو كما قال "نحن من جيل "نحن" وليس من جيل "أنا". هل أوضح مهري سبب توتر علاقته ببوضياف؟ سي مهري كان قريبا جدا من الراحل محمد بوضياف وقاسمه شقة الحزب في بداية 1952 بالقصبة عندما أتى به الحزب ليكون سكريتير مجلة "المنار" التي كان يمولها الحزب ويشرف عليها المرحوم محمود بوزوزو. بوضياف وبن مهيدي وديدوش لم يتقبلوا حل المنظمة الخاصة وبقوا يتصرفون على أنهم قيادة فعلية للمنظمة المحلة وتصادف أن طلب الحزب من بوضياف الاهتمام بالناجين من القبض على أعضاء المنظمة الخاصة. وكان مهري قريبا منهم لدرجة انه كان محسوبا عليهم . وعندما جاء مبعوثا الأمير الخطابي أرسلهما الطاهر قيقة إلى مهري باعتباره صديقا له. جاؤوا للاتصال مع الرسميين وعندما فهم مهري توجههم الثوري أوصلهم إلى بوضياف وديدوش مباشرة. سي بوضياف كان يظن أن مهري معه، ولكنه كان مرتبطا نظاميا باللجنة المركزية. وبعد آخر اجتماع للجنة المركزية صُدم بوضياف لرفض مهري الانضمام.. يقول مهري "ربما صدم أكثر لأنه كشف لي عن سر اندلاع الثورة". مهري عندما كان سفيرا في فرنسا استقبل بوضياف وبعض المعارضين ووقع سوء تفاهم لأنها كانت مبادرة شخصية، ولكن بوضياف فكر أنها بإيعاز من جهات رسمية. وهل قال أمورا جديدة عن قضية فرحات عباس ومحمد اليزيد؟ حكى لي عن قضية فرحات عباس.. مهري كان يرى انه كان أكثر وعيا سياسيا وأكثر تطورا فكريا منه ولكنه يحترمه كسياسي نزيه يحترم الرأي العام ويدير السياسة مع الشعب والرأي العام. مهري لم يكن موافقا على تنحيته في 1961، لأنه لم يكن موافقا على تعيينه من البداية بعد مؤتمر الصومام، لتفادي أي إشكالات كان رأي عبد الحميد مهري أن يعينوا واحدا يمثل التيار وليس زعيم التيار، قال "أنا الآن ضد أن تعينوه ولكني سأكون ضد أن تتم تنحيته بعد تعيينه". وفعلا الحكومة الضيقة كانت من تيار واحد، وفرحات عباس دفع إلى خطا آخر وهو تزكية جماعة تلمسان التي فرضت نفسها بالقوة ولا علاقة لها بالسياسة.. فرحات عباس قال في حديث لجريدة "لوموند" في تلمسان "جئت حيث الشرعية". وهل تطرقتم بإسهاب إلى مختلف مراحل نضاله السياسي قبل دخوله السجن؟ عاش مهري ظروفا استثنائية كمناضل كبير وعضو اللجنة المركزية. فقد خرج متنكرا بوثائق فرنسي "أستاذ لغة انجليزية" هو صهر العائلة الفرنسية التي كان يختبئ عندها، ثم استقر في دار شباب لفترة إلى غاية تسليمه دراجة ليعبر الحدود. ولكنه لم يقدر على مقاومة ثقل الحقيبة فرفض المواصلة على الدراجة واستقل القطار. أسكنته السفارة المصرية في دار شباب بسيطة جدا وظل يتناول شطيرة واحدة في اليوم لفترة حتى ظل يذكر نوع الشطيرة ومكوناتها. وفي الباخرة أرادوا أن يلبسوه زي "البابا" ولكنه تفطن إلى انه سيكشف أمره إذا اضطرته الظروف إلى الصلاة بهم ولا يعرف طقوس الصلاة فتراجع. ومن الطرائف انه عندما كان في السجن، وضع في آخر زنزانة وكلما وزعوا الكتب تنفد النسخ إلى أن حصل أخيرا على كتب، ولكن لسوء الحظ لم يتبق إلا كتب عن كيفية تعلم اللغة الايطالية. هل هذه الشهادة بحاجة فعلا إلى وثائق حتى تعرف طريقها إلى الطبع، أم أن مضمونها شمل كل الأحداث والمراحل التاريخية؟ الكتاب مهم جدا لاسيما إذا زود بوثائق ولكنه ليس مذكرات، لأن الشهادة على لسان صاحبها. مهري قدم إضافات مهمة جدا..مهري رجل بسيط ولكنه داهية.. وكريم بلقاسم أو اوعمران أو بن طوبال وغيرهم من العسكريين كان وراءهم فرحات وبومنجل وفرنسيس وقدور ساطور وغيرها من الأسماء التي خدمت الثورة وأدت ادوارا مهمة. ما هي خلفية تعيينه وزيرا مكلفا بشؤون شمال إفريقيا في ظل الصراعات التي سادت في تلك المرحلة؟ الدكتور لمين دباغين كان في خلاف حاد مع الوفد الخارجي الأول "خيضر وبن بلة" باستثناء -ربما آيت احمد-. وبعد تشكيل لجنة التنفيذ والتنسيق الثانية وتعيينه عضوا رفض بن بلة التعيين. وعند تعيين أعضاء الحكومة المؤقتة أخذوا بعين الاعتبار موقف بن بلة فقلصوا من صلاحيات دباغين كوزير خارجية بتعيين مهري مكلفا بشؤون شمال إفريقيا. ورغم ذلك لم يرفض مهري التعيين؟ كما قلت المعروف عن مهري انه رجل حكيم ويدرس مواقفه.. أستاذ في عمارة رشيد، ثم مدير مدرسة المعلمين ببوزريعة، ثم أمين عام في وزارة التربية رفقة علي بن محمد وآخرين ساهموا في تأسيس المدرسة الجزائرية الأصيلة.. مهري إنسان أصيل كان يدرس القرآن الكريم ويرتدي لباس الشيوخ "قندورة وشاش"، تطور وتعلم اللغة الفرنسية لوحده بفضل التراكم الثقافي الواضح في عائلته. في أيامه الأخيرة أصبح معقدا من قضية الإثارة التاريخية فكان يتحفظ وعندما يرفض الإدلاء بشهادة في موضوع معين فهو لا يغير رأيه مهما كانت الظروف. مهري كان بمثابة المرشد خلال الثورة التحريرية..عندما قدم ديغول تصريحا في 16 سبتمبر 1956 فحواه انه سيحتكم إلى تقرير المصير، ثم صرح في 10 نوفمبر1956 بأنهم مستعدون لاستقبال الوفد الجزائري. اقترح مهري وقتها امتحان ديغول وكشف نواياه الحقيقية ومدى جديته، فطلب أن يرشحوا له الخمس "بن بلة ومحمد بوضياف وحسين أيت احمد ومحمد خيضر والصحفي مصطفى الأشرف" الموجودين في السجن -آنذاك – ولكن ديغول رفض طلب مقابلتهم بدعوى انه يجب لقاء القياديين الموجودين في الميدان رغم أن فرنسا تفاوضت مع بورقيبة ومع محمد الخامس في السجن.. فانكشف ديغول وتأكد الجميع بمن فيهم حلفاؤه من نواياه وتأكد الجميع بأنه كان يستخف بهم. عبد الحميد مهري هو النموذج السياسي الشريف والنزيه الذي يعرف حدوده، وبالنسبة إليه مصلحة الوطن والشعب خط أحمر. هل كان من المفروض أن تسجل شهادته حول ما يعرف "بالمؤامرة العلمية"؟ بحكم تخصصي توقفنا في مرحلة الاستقلال وحاولت أن أعود وأراجع مرحلة بن بلة بدقة، فكما أشرت العمل لم يكن مذكرات وإنما شهادة مسجلة وموثقة بمنهجية علمية.. كنت أتمنى أن يتفرغ ليكتب التاريخ ويترك السياسة، وعندما كان رئيسا للجنة الثقافة في الحزب طلبت منه ذلك –شخصيا- ولكن السياسيين ينساقون عادة وراء النشاطوية. وعليه لم نتطرق إلى نقطة الانقلاب عليه، ولكني أرى أن عودته إلى الآفلان لم تكن في وقتها. هل اطلعك الراحل عبد الحميد مهري على وثائق مهمة ستثري العمل؟ أولا، أؤكد أنني طلبت ألا تنشر تحت مسمى "مذكرات" وان تبقى كما اتفقنا عليه كتابا يضم شهادة موثقة وفق محاور هي أمانة سلمتها وأتمنى أن ترى النور. مهري كان قادرا على كتابة مذكراته، لماذا يحتاجني أنا أو غيري ليكتب له مذكراته؟ 13 جلسة بمعدل ساعة ونصف في كل جلسة. استغرقت سنة كاملة، لأنه كان منشغلا جدا في تلك الفترة. كان سي مهري قد أطلعني على وثيقة مكتوبة بخط يده تتضمن تشكيلة الحكومة المؤقتة الأولى 19 سبتمبر 1958 وهو من اقترحها نفذت كلها باستثناء منصبه الذي اقترح له محمد يزيد "وزير شؤون شمال إفريقيا". هل تضمن العمل مرحلة صراع الميصاليين والمركزيين أي حقائق جديدة؟ كان مهري من الشباب حديثي العهد باللجنة المركزية رفقة بلعيد عبد السلام.. تربيته حزبية حتى النخاع. يقول أن المجاهد والوزير السابق العربي دماغ العتروس هو من اقترحه، لأنه كان خطيبا فصيحا وكان قريب جدا من التيار الثوري وكان يتحدث باسمه رفقة الشيخ الثعالبي. وكأبناء جيله كان يرى أن ميصالي كبر، ومطالب بالانسحاب والاكتفاء بالرئاسة الشرفية.