لماذا تحوّل النقد في الجزائر من حرفة أكاديمية إلى معارك شخصية؟ على من تقع المسؤولية على الكتاب أو النقاد أو المنظومة الجامعية؟، "الشروق" حملت هذه الأسئلة لمجموعة من الأسماء الأدبية والجامعية التي تباينت إجاباتها لكنّها اتفقت في النهاية أن المهاترات الحاصلة في الساحة الأدبية لا ترقى لأن تكون في مستوى النقد وهي لا تخدم الأدب. أكد الدكتور سعيد بوطاجين أن"النقد في الجزائر لا أفق له في السياق غير المناسب لإبداء الرأي"، لهذا فهو منسحب من الساحة ويبقى حبيس الدراسات الأكاديمية. ويرى بوطاجين أنّ وضع النقد مرشح للانحسار أكثر في ظل ظهور "إبداعات سماوية لا تقبل الملاحظة" وهو وضع شبيه بما يحدث في الأحزاب الشمولية التي لا تضع الخطأ في حسبانها. فالساحة عندنا يؤكد صاحب كتاب "السرد ووهم المرجع" تنقسم إلى كتّاب ملوك ونقاد عبيد، وفي ظل هذا الواقع تصير القراءة العارفة بلا وظيفة ولا تأثير فالشعراء والكتاب يرون أنفسهم فوق النقد وفوق المخابر والمؤسسات الجامعية حتى لو كانوا "لا يعرفون كتابة جملة صحيحة إملائيا ونحويا وأسلوبيا وبنائيا. لقد وصلنا إلى انسداد عام أصبح فيه الكاتب مبتدأ وخبرا، مبدعا وناقدا وجمهورا وجامعة ومؤسسة ثقافية مستقلة". بوطاجين مقتنع تماما أنّ الناقد مجبر على احترام جهد المبدع وليس على المبدع أو الناقد فرض شروطه وذوقه على المتلقي لكن النقد العارف ضرورة لأنه في حال انسحب من الساحة ستحل محله الجماعات الضاغطة لإملاء ما تريده، وفق منظورها ومستواها، وذاك هو الحاصل حاليا في ظل تقهقر الموقف الأكاديمي خوفا من ردود الأفعال التي تتبناها بعض الجماعات الأدبية المسلحة التي وجدت أرضية خصبة لتمرير سلعتها وفرضها على القارئ كمستهلك لا حقّ له في إبداء الرأي. لأن اليوم لم يعد ثمة فرق بين رجال الأدب ورجال السياسية يتصرفون كأنهم علماء وعلى المتلقي أن يتعلم منهم. ضياع البوصلة وغياب روح المؤسسة والعجز عن الاحتكام إلى سلّم قيم واضح وثابت متماسك. هو ما يعاني منه النقد حاليا حسب الدكتور فيصل الأحمر الذي يرى أن أمراض الساحة الثقافية والفكرية ألقت بظلالها على النشاط النقدي عندنا والساحة عندنا تخضع للنزعة القبلية حيث يعجز الإنسان عن "رؤية نفسه في إطار مستقل عن القطيع، الجماعة، القبيلة ..."، وهيمنة العلاقات الشخصية على نتائج فعل التذوّق يترجمها غياب ملكة الحكم؛ فالجميل جميل لأنه مرتبط بي والاسترجاع المستمر لبعض الأحكام الجاهزة (مثل تقديس كل ما يأتي منوطا بأسماء وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج مثلا...وهي قائمة توسعت لأسباب نيكرولوجية لتشمل آسيا جبار بعد نصف قرن من النقد الأعشى أو الأعمى والأعور في أحسن الحالات) يترجمه الكسل الفكري المسيطر للأقوام المتخلفة والبدائية التي تعتمد على استيراد الأحكام من الخارج لأنها عاجزة عن التفكير"، وعليه فالدكتور فيصل الأحمر يرى أن الساحة عندنا بحاجة إلى "أكثر من رقية شرعية". الحبيب مونسي يرى أنّ سبب تشنج العلاقة بين المبدع والنقاد في الجزائر يعود أساسا إلى افتقار الساحة إلى "أخلاق أدبية نؤسس عليها مستوى المحاورة بين الطرفين". وغياب التواضع والاحترام الذي يجب أن يكون أساسا العلاقة بين الناقد المبدع مهما كانت مساحات الاختلاف. ويشاطر الدكتور مونسي موقف الدكتور بوطاجين في أسباب انسحاب النقاد عن إبداء الرأي العلمي فيما يقرؤون بسبب تشنج العلاقة بينهم وبين الكتاب ويفوّتون بذلك على النقد الجزائري فرصة المراجعة والتوجيه. وتمضي النصوص وراء بعضها بعضا في حسرة لا يلتفت إليها أحد "خاصة وأن البعض يعمد إلى إخراج بعض الأحكام من سياقاتها بأن "يرفع رأيا يستلّه مما يسمع في الحوارات ليعليه على رأس المقال بالبند العريض، فيشعل به الثائرات، ويدير به رحى الاختلاف". ويضيف الحبيب مونسي أنّ سبب رفض بعض المبدعين لما يبدى تجاه أعمالهم الأدبية من انتقادات مرده الفهم الخاطئ لوظيفة النقد التي لا تتوقف حسب المتحدث عند جماليات النص بل تتعداه إلى البحث في الفكرة التي يسوقها حيث يعتقد بعض الكتاب أن التطرق إلى نصوصهم هو مساس بذواتهم فيثورون ويؤكد مونسي أنّ النص صاحب الفكرة التي تدافع عن حريتها وجدارتها يفرض نفسه بنفسه. عبد الرزاق بوكبة اتهم الجامعة "بالاستقالة" وغرقها في النظريات والمناهج، بعيداً عن مواكبتها للمتون والنصوص والعطاءات الإبداعية. الأمر الذي ترك الساحة "للدخلاء والمغشوشين الشغوفين بالتمييع، الذين يفرضون أنفسهم بالوقاحة لا بالإبداع انطلاقًا من افتقادنا لسلّم قيم نقدية وجمالية، تضعهم عند حدودهم. ويقر بوكبة أن الحديث عن أمراض النقد لا يمكن أن يتم بمعزل عن أمراض المجتمع منها الشللية والجهوية والعصبوية والنفعية والغيرة والحسد". صاحب رواية "جنوب الملح" ميلود يبرير ذهب أبعد من بوكبة عندما قال إن الجزائر تفتقر إلى حركة نقدية حقيقية رغم الكم الهائل من الأعمال التي تصدر سنويا، وعدّد يبرير أسباب غياب النقد من غياب إعلام ثقافي متخصص ومن يسمون بالنقاد لا يقرِؤون ويكتبون عن "أشياء متشابهة تخضع للشلليّة، الانتماء الجهوي والعرقي، الانتماء لنفس الجيل" وقال يبرير إن الجامعة منفصلة عن واقعها فهي لا تنتج غير "نقد انطباعي والنظريّة الأكاديمية المليئة بالإحالات والمصطلحات" وهذا الواقع حسب يبرير فرضه غياب مشروع نقدي لغياب الإنتاج الفكري عندنا. في السياق ذاته يرى الدكتور أحمد حمدي أن النقد الأدبي في الجزائر يكاد يكون منعدما، وإذا وجد "فإنّه لا يعدو أن يكون انطباعيا يفتقد إلى الموضوعية وغير مدجج بالمعرفة الحقيقية، وغير متسلح بالمنهج العلمي السليم، بل ولا يعرف أبسط قواعد النقد، كان لا يفرق بين النثر والشعر، إضافة إلى نشوء ظاهرة النقد العصبوي أعني نشوء عصابات تتبادل الزهور فيما بينها، وتقذف غيرها بالحجارة وتشن هجومات لا أخلاقية على من لا يكون ضمن عصبتها، ....هذا النقد العصبوي وبالأحرى التسويق الأدبي هو الظاهرة التي تطغى على المشهد الأدبي الحالي".
كتاب يؤكدون أنّ خيار المواجهة يسوده النفاق والتملّق النقد في الفايسبوك: معارك دونكيشوتية.. خصومات و"معايرات نسائية" في الآونة الأخيرة خرج النقد من سياقه الأدبي والأكاديمي والثقافي والفني إلى صفحات التواصل الاجتماعي، أي أصبح "افتراضيا"، الأمر الذي أدّى إلى حدوث "تجاوزات أخلاقية" منها السبّ والشتم المتبادلين بين الكتاب والمثقفين والفنانين وحتى الرياضيين والساسة، فيرى البعض أنّ النقد الفايسبوكي غرضه تصفية حسابات سقط أصحابه في مستنقع الابتذال والغيرة بدل خيار المواجهة الحقيقية، لكن حسب من تحدثت إليهم "الشروق" فإنّ حوار الوجه لوجه يسوده النفاق والنقاش في "الفايسبوك"، عقيم يؤدي إلى "معارك دونكيشتوية" تنتهي ب"البلوك" غالبا.
عبد العالي مزغيش: معارك دونكوشوتية يستغلها البعض لتصفية الحسابات اعترف الشاعر عبد العالي مزغيش أنّ الفترة الأخيرة شهدت فعلا، الكثير من المعارك والخصومات بين المثقفين والفنانين والإعلاميين الجزائريين، وسقطت -حسبه- في مستنقع الابتذال والسطحية، وقال: "مشهدنا الثقافي بحاجة إلى معارك هادئة تستخدم القلم بدرجة من الوعي والمسؤولية، مع رفع شعار"الحق في الاختلاف وواجب الاحترام" الغائب اليوم من أدبيات الخصومة الأدبية والفكرية"، ويضيف: "هي الخصومة التي لم تعد تملأ صفحات صحفنا وشاشات قنواتنا، واستبدلها البعض بتصفية الحسابات الشخصية"، مرجعا الأسباب إلى أن الفيس بوك وما يتيحه من حرية في التعبير تصل إلى نشر أمور خاصة وشخصية بعيدة عن الفكر والوعي، وهذا -حسبه- سبب قوي لانتشار هذه المعارك "الدونكيشوتية" التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل تزيد من الهوة بين المثقفين، ونشر البغضاء بينهم، وتزيد من تأجيجها تعاليق جمهور سطحي يبحث عن الإثارة وبعث النعرات الجهوية والعرقية. ولم يخف مزغيش أنّ الخصومات التي حدثت له مع البعض في العالم الافتراضي أصرّ خلالها على عدم السقوط في الابتذال، ولسان حاله يقول: "سوف يدركون أنهم مخطئون في حقي"، وذكر أمثلة من خاصمه: "كانت بيني وبين الكاتب يوسف بعلوج خصومة "فيس بوكية" لكنني بادرت بطلب العفو منه، ووجدت في شخصه كل الأريحية والتفهم، فيما جمعتني خصومة مع الإعلاميين حسان زهار، وياسين بلمنور وبوطالب شبوب، حول الموقف من الثورة في ليبيا، والتقيت بالجميع لاحقا ولم يصل الخلاف إلى ذروة اللارجوع وإنّهم الآن من أعزّ الأصدقاء"، وأشار أنّه مؤخرا حدث سوء فهم بينه وبين بعض الشعراء، ورغم اتخاذهم موقفا منه لم ينزعج من ذلك.
رابح ظريف: الفايسبوك تحول إلى منبر من لا منبر له والغاية تسوية خلافات شخصية يشير الشاعر والسيناريست رابح ظريف أنّه لا يرى وجود صراع ثقافي حقيقي يحدث في الساحة الثقافية في الجزائر، بقدر ما يرى تصفية حسابات وغيرة بعض المحسوبين على الإعلام من نجاحات فردية صنعت الحدث مؤخرا، مؤكدا في الصدد ل"الشروق" أنّ لجوء بعض المثقفين في نقدهم للبعض الأخر إلى صفحات الفايسبوك والتويتر ليس خيارا، بل الخيار والمكان الحقيقيّ للنقاش هو المواجهة الشخصية وليس الاختفاء خلف صفحات الفيسبوك وتأليب العامة والغوغاء في اتجاه تشويه صورة المنافسين والتشويش عليهم، الفيسبوك حقيقة تحوّل إلى منبر من لا منبر له ليسوّي هذا الأخير خلافاته الشخصية.
الروائي بشير مفتي: خيار المواجهة يسوده النفاق ونقاشات الفايسبوك عقيمة يؤكد الروائي بشير مفتي ل"الشروق" أن مواقع التواصل الاجتماعي كشفت الكثير من عيوب الكتاب والمثقفين، ولكن وجب القول كذلك أنّ هذه العيوب ليست وليدة الفايس بوك بل هي نتاج واقع ينعدم فيه الحوار منذ عقود طويلة، ويرى مفتي أنّ حضور المثقف بصورة طاغية على الفضاءات الافتراضية دليل على أنه لم يعد له تواجد حقيقي على مستوى الواقع، كما يعتقد المتحدث أنّ الكتاب والمثقفين ليسوا بتلك الصورة المثالية التي ينسجها خيال الناس عنهم، فهم مثل باقي الناس يتعاركون على مصالح مادية أو رمزية، بل هم في مشاحناتهم يذهبون إلى مستوى أحط، وقد تستثنى قلة قليلة من السقوط في هذا الحضيض. ويجيب الكاتب بشير مفتي حول اختيار بعض المثقفين في نقد البعض الأخر صفحات الفايسبوك والتويتر بدل المواجهة الفعلية في لقاءات أدبية وفكرية؟ أنّه يفترض أن تكون المواجهة من خلال التحاور في أماكن ثقافية تسمح بالحوار لكن تلك المباشرة -حسبه- يسودها كثير من النفاق والمجاملات وغير ذلك. مشيرا في السياق أنّ الغريب ربما التقاؤهم على ساحة الواقع، يكون أقل حدة وخشونة مما هم عليه في الفايس بوك، الذي صار يسمح باستعراض عضلات وهمية، وإدعاء شجاعة خرافية غير موجودة واقعيا، وبالتالي يؤكد مفتي أنّ النقاشات تحت هذا الغطاء عقيمة. وكشف مفتي أنّ "العراك" بينه وبين البعض بلغ "ذروته" عدة مرات من خلال متابعين لصفحته، "جامعييين، صحفيين، متعلمين"، لكن قال إنّه في الغالب يكون محرجا في الردّ عليهم لأنّه يكره السجال الحاد.
عمار بن طوبال: موقفي من "الربيع العربي" جلب لي "البلوك" وفضاءات النخبة يسكنها التملق أكدّ الأكاديمي والمدوّن عمار بن طوبال أنّ انتقال مجالس"الغيبة والنميمة الثقافية" من الفضاءات المغلقة "المقاهي، الحانات" إلى فضاء مفتوح كالفايسبوك أدى إلى انفلات الأمور بشكل غير متوقع، فالفايسبوك يتيح إمكانية توثيق المنشورات وحتّى الرسائل الخاصة ممّا يجعل التنصل ممّا يقال أمرا صعبا. وأوضح بن طوبال ل"الشروق" أنّ هذا ما جعل بعض ما يقوله المثقفون عن بعضهم البعض يخرج عن مجاله الضيق إلى مجال أوسع، مع إمكانية تداوله بين المهتمين بالشأن الثقافي في هذا الفضاء، وهذا التداول يؤدي إلى الرد من طرف كل من تمسه تلك المنشورات أو يذكر فيها، مما يخلق -حسب بن طوبال- حركية في الرد والرد المضاد، وغالبا ما تنتهي بالشتم والتسفيه بشكل لا يختلف عن خصومات نساء الجيران اللواتي يظهرن قدراتهن في "المعايرات"، وهي قدرات يبديها المثقفون والفنانون ورجال الإعلام حين ينزلون لمستوى السب، هذا الأخير وبسبب الفايسبوك كسر هيبة المثقف.