كيف يقرأ كُتاب ونقاد، ظاهرة "التكريس" والكاتب المكرّس والأسماء المكرّسة في الأدب، فكثيرا ما نرى أسماءً شعرية وروائية بعينها، مكرّسة في المشهد الثقافي والأدبي، وأسماء أخرى مهمشة رغم تميزها الإبداعي وما تتوفر عليه من جودة وعطاء. الظاهرة متفشية في ثقافتنا العربية والجزائرية على حد سواء، وبمستويات مختلفة ومتفاوتة، لكنها موجودة وجليّة. فهل الأديب والكاتب المكرّس يمثل دوما قيمة إبداعية فعلية، أم العكس هو الذي يحدث غالبا، وأن التكريس يخدم أسماء ليست ذات أهمية أدبية حقيقية، إنما خدمها الحظ ودوائر إعلامية معينة ساهمت في تضخيم الهالة حولهم، وبإحاطتهم بأضواء أعلى من قامتهم، وبنقد بالغ في تلميع أدبهم لا غير. كُتاب ونقاد، يتحدثون في ملف "كراس الثقافة" لهذا العدد، عن ظاهرة التكريس، ويقاربونها، كلٌ حسب وجهة نظره. إستطلاع/ نوّارة لحرش سعيد بوطاجين/ روائي، مترجم وناقد يجب أن تكون غنيا أو منبطحا ليكرس اسمك في هذا الوقت يمكن أن نأخذ الموضوع من منطلقات ضرورية لتحديد معنى الكاتب المكرس. هناك أولا السياق التاريخي. يقال إن نابليون بونابرت لو جاء في وقت آخر لما أحاطت به كل تلك الهالة، الشيء ذاته ينسحب على بعض المبدعين. قد يلعب المقام دورا هاما في الإعلاء من شأن كاتب بالنظر إلى المحيط والعوامل الأدبية والسياسية ومستويات التلقي والنزعات التي تتحكم في الموقف النقدي وخلفياته ومقاصده. لكن السياق نفسه قد يسهم في تهميش كفاءات أدبية، مثلما حدث في عصر النهضة عندما تم التأسيس على المركزية المقيتة، مع إهمال الهامش الذي أنتج نصوصا كان يمكن أن تحوَل مسار الشعر العربي الإحيائي برمته. بيد أن السياسة أرادت أمرا آخر بتركيزها على جغرافية دون أخرى، وسيستمر ذلك إلى وقت قريب. لقد تمَ التأريخ للرواية والقصيدة والقصة والمسرحية بالخضوع إلى ضغط المركز، ولذلك ظهرت أسماء واختفت أخرى. بعض السياسات وباء حقيقي على الأدب، شأنها شأن الكُتَاب التبعيين الذين يدينون بولائهم للسلطات المختلفة، سياسية أو فكرية أو ثقافية أو أدبية، هؤلاء يسهمون بدورهم في تغريب هالات وعبقريات، مثلما حدث في عهد ستالين. علينا أن نتصور كيف عاش ميخائيل بولغاكوف مغمورا في روسيا، كما سولجنتسين الذي قال عنه الرئيس فرانسوا ميتران إنه أكبر مثقف في القرن العشرين. ولولا هروبه إلى الولاياتالمتحدة لما سطع نجمه. الولاياتالمتحدة نفسها قهرت بعض الكُتَاب، أو أنهم أحسوا ببعض التهميش، ومنهم هنري ميللر، ولهذا قال إن أول خطأ ارتكبته في حياتي أني ولدت بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وربما انتقد إرنست همنغواي انتقادا لاذعا لإحساسه بأنه ابن مدلل للسلطة، وذلك عندما قال إنني لا أقرأه سوى في دورة المياه ثم ألقي بكتابه هناك. كان هنري ميللر ظاهرة أدبية وفلسفية، ولو لم يسافر إلى باريس، ثم إلى اليونان لما ذاع صيته وأصبح مدرسة. طبعا، السياقات مختلفة لكنها متجاورة. ويمكن الإشارة في حالة العالم العربي إلى محمد الماغوط . عندما قرأ أحدهم أشعار هذا الأخير وسأل الناس عن مؤلفها اتفقوا بالإجماع على أن كاتبها هو أرتور رامبو. ولم يظهر محمد الماغوط إلا بعد نضال كبير ومضايقات مرعبة، لكنه ظل كبيرا بعد وفاته. كما نشير أيضا إلى أن أدونيس غير اسمه بسبب عدم رغبة الجرائد والمجلات في نشر أعماله، إلا بعد انتحاله هذه الصفة العميقة دلاليا. لقد كانت هذه المؤسسات مهتمة بتلميع أسماء ليست في مستواه. مسألة مصلحة. الجزائر لم تنج من هذا الوباء، سواء في السبعينيات أو اليوم. في السبعينيات هيمن منطق السلطة، ووجد الكُتَاب الذين كانوا خارج الصف صعوبات جمة. أما اليوم فقد ظهرت أسماء وكرَست وطنيا وعربيا. أتصوَر أن بعضها يستحق هذا التكريم بالنظر إلى الجهد المبذول لترقية السرد والمتخيل. وبالمقابل، قد نجد أعمالا أقل قيمة من الأعمال المهمشة، وقد تُرجمت إلى عدة لغات وأصبحت تمثل الجزائر في المحافل لأسباب تتعلق بمركزيات جديدة أملتها جماعات الضغط المؤلفة من دور النشر والمؤسسات الإعلامية والدعاية والنقاد المداهنين وأشباه النقاد والمثقفين والمتعلمين والكُتَاب الذين تنازلوا عن مواقفهم وحقيقتهم، وأولئك الذين باعوا كل شيء من أجل الانتشار. وهناك الأموال. لقد لعبت سلطة الأموال والعلاقات دورا كبيرا في تكريس النموذج. يجب أن تكون غنيا أو منبطحا ليكرس اسمك في هذا الوقت. قالت لي المترجمة يولاندا غواردي إن أغلب ما يُترجم في إيطاليا من أدب عربي أو جزائري يؤسس على معايير تفرضها جهات بدعم من المراكز الثقافية واللوبيات، وإلاَ كيف يُترجم لكُتَاب مبتدئين ولا تترجم أعمال الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة؟ هل يجب أن نذهب مباشرة إلى الموضوع؟ عليك أن تتنكر لهويتك وبلدك ودينك وتقاليدك وتاريخك وأسلافك وأهلك وقناعاتك وعقلك وتكتب نصوصا للآخرين، بمنطقهم ورؤيتهم وحداثتهم ليرضوا عنك. الجزائر حقل ألغام من هذه النماذج المهيمنة على كافة الأصعدة، وعليك أن تعرف أين تضع قدميك. سيكشف الوقت عن هذه القواعد الخلفية التي لا تختلف عن الجماعات المسلحة والعصابات السياسية. أما الأولى فتستعمل الأقلام والعلاقات، وأمَا الثانية فتلجأ إلى الكذب والأسلحة، وكلاهما طارئ. والنتيجة: أصبحت لا أستطيع إقناع الطلبة بأن هذا العمل أو ذاك جزائري محض لأن كل ما يوجد فيه أجنبي، ما عدا الاسم والمسخ المعلن. طبعا، التعميم ها هنا موقف غير أخلاقي لأن هناك كُتَابا مؤهلين يستحقون كل التبجيل، لكن هذا لا ينفي وجود كُتاب تمَ تهميشهم لأنهم يشكلون خطرا على جماعات الضغط، وعندما يصبح السياق مناسبا سنعود إلى الموضوع. يجب أن تكون لك جرأة واستعداد كاف لأن تعيش في الهامش، منسيا ومنبوذا، كما مالك حداد في نهاية حياته. مخلوف عامر/ كاتب وناقد يتكرر في معظم البحوث الأكاديمية وكأنه "ماركة مسجلة" الأدب الجزائري كغيره لم يخْلُ من ظاهرة تكريس اسم أو مجموعة محدودة من الأسماء. وهي ترتبط بجملة من العوامل قد يكون من أهمِّها الخطاب السياسي السائد في فترة معينة من تاريخ الوطن والأمة.فالثورة المسلحة كانت في حاجة إلى أصوات تعبر عنها، كما أن الكُتاب وجدوا أنفسهم وسط الموْجة واضطروا إلى ركوبها طوْعاً أو كرهاً.فالشاعر "مفدي زكرياء" -بصرف النظر عن موهبته التي لا تُنْكر- فإن النبرة الحماسية لديْه كانت أنسب لمواكبة الحدث، واقترن اسمه بالنشيد الوطني وبقى مكرَّساً حتى ولو لم يخرج من دائرة القصيدة التقليدية أو مال في كثير من الأحيان إلى النظم أكثر من الشعر. والنُقاد العرب شجعوا أدباء جزائريين دعماً للثورة وللعروبة لا لإضافات جمالية. ثم جاء الخطاب السياسي الإيديولوجي-فيما بعد- ليؤدي الدور نفسه. فاليسار الذي كان ممنوعاً أو شبه علني، كان يرحب بأي قناة لتمرير خطابه. ما يفسر أن كثيراً من الكُتاب الناشئين في سبعينيات القرن الماضي ركبوا الموْجة الجديدة وحظوا بالتشجيع لمجرد أن المضمون الاشتراكي يتصدر الواجهة في أعمالهم. خاصة وأن الخطاب الرسمي قد وجد في هذا النوع من الكتابة سنداً ووسيلة.يُضاف إلى ذلك ما تتميز به طبيعة الأديب من نرجسية قد تتحوَّل مع مرور الأيام إلى ضرب من تضخُّم الأنا ينتهي به إلى ممارسة الإقصاء ضد كل من يشمُّ فيه رائحة الإبداع أو يتوسَّم فيه منافساً محتملا فيسعى إلى إقامة شبكة من العلاقات ينشطها أتباع ومريدون يروُّجون له عبر المنابر المختلفة. وهو بمجرد أن يكتسب الشهرة المنشودة قد لا تأتي أعماله اللاحقة سوى تنويعات على أعماله القليلة الأولى فتتكاثر بلا تريُّث. وما يزيد من تعميق الظاهرة أن القراء -على قلَّتهم-يتعلقون بالكاتب المكرَّس ويتكرر في معظم البحوث الأكاديمية وكأنه "ماركة مسجلة" تؤهِّل الباحث لنيْل الشهادة.ثم إن الحركة النقدية لم تواكب الإنتاج الأدبي بما يكفي لنكتشف مبدعين متميزين في أوساط المهمَّشين. علماً بأن أكثر من نصف قرن منذ الاستقلال مدة كفيلة بأن تنجب كُتَّاباً متفرِّدين وهذا حاصل بالفعل في سائر الفنون الأدبية. ولكن بما أنه حيث يوجد الإقصاء يوجد التهميش، فإننا لا نخسر الذين استمروا يشتغلون بعيداً عن الأضواء وحسب، بل نخسر أيضاً بعض الأسماء المُكرَّسة، لأنها لا تصمد أمام غربال الزمن، وقد تبدو للأجيال القادمة أشبه بفقاقيع طفت على السطح فترة من الزمن ثم ما لبثت أن انطفأت. إن دوَّامة الطمع في المال والشهرة والعلاقات الشخصية المشبوهة تجعل المكرَّس لا يرى في المرآة إلا ذاته. والأسوأ من ذلك أنه إذا تولَّى إدارة مؤسسة عمومية يستغلُّها للترويج لنفسه، وتُصَدِّقه الغوغاء من المتعلمين وأنصافهم ويتقرَّب منه آخرون لعلَّه يزكِّيهم ويُعلِّمهم حكمة الوصولية. إنها –في كل الأحوال-ظاهرة لا تزول، لكنها تُعلِّمنا الفرق بين ما يذهب جفاء وما يمكث في الأرض. عبد الله العشي/ شاعر وناقد نحن في حاجة إلى نقد مواز لفعل التكريس يقوم بعملية الكشف عن مؤسسات التكريس وآلياتها عملية تكريس الكاتب ليست من ظواهر عصرنا الحاضر وحده، بل هي ظاهرة لصيقة بالتاريخ، فالمؤسسات السياسية والاقتصادية وغيرها يتعدى نشاطُها مجالَها الأصلي لتستثمر في الكتاب والكتابات والايديولوجيات والأفكار، قد يعي الكاتب وقد لا يعي أنه مكرس لجهة ما وأنه يقوم بالترويج لفكرة أو سلعة. وقد شهد التاريخ العربي ظاهرة تقريب كتّاب واستبعاد آخرين من قبل المؤسسات السياسية خاصة. ومن ثم جاءت عبارات شاعر البلاط أو مؤرخ القصر أو مفتي النظام. وظل الجدل بين الكاتب والمؤسسة قائما إلى اليوم. والتكريس لا يرتبط بالأشخاص فقط، بل يمكنه أن يشمل الأفكار والمناهج والسياسات والمفاهيم والنظريات، ويقدّمها على أنها النّموذج المثالي للمعرفة والعلم والفلسفة والفكر والفنّ،ومن خلالها يتم استبعاد أفكار على حساب أفكار أخرى، لخدمة مصالح معينة. فقد تمّ تكريس أيديولوجيات مثل الاشتراكية والماركسية والقومية والوطنية والعلمانية، ويتمّ الآن تكريس العولمة وما بعد الحداثة وتَفكُّك المعنى، وتمّ تكريس توابعها في الكتابة الأدبية والنقد الأدبي والنظرية الأدبية، فقد تمّ، ذات يوم، تكريس البنيوية إلى أن تحولت إلى "دوجم" وتمَّ تكريس السيميائية حتى تحولت إلى "وثن"، ووراء تكريس ذلك تكريس للكُتاب الذين يشتغلون فيها. تكريس الكاتب، الآن، هو، في الحقيقة، عملية تحويل فكري في النظر إلى الأشخاص والمفاهيم والوظائف، تحويل الكاتب إلى موظف أو وسيلة أو أداة توصيل، وتحويل المفهوم إلى طعم لتمرير سلعة أو فكرة أو نظرية، وتحويل الوظيفة من الاستقلالية إلى التبعية. فأصبحت عملية التكريس، بالتالي، نوعا من أنواع الغزو الناعم والسلس. ولذلك فإن أغلب الكُتاب، بل ربما كلهم، لا يساوون حقيقتهم الواقعية، فإما أنهم فوق حقيقتهم أو دونها، لأن الكاتب لا يصل إلى القارئ إلا من خلال وسائط تقدمه كما تراه هي، وليس كما هو في حقيقته. فثمة موجهات مقصودة قد ترفع من قيمة الكاتب أو تقلل منها، تبدأ بغلاف كتابه وشكله وعنوانه وما يكتب على غلافه ومقدمته وأية عبارة أخرى تصفه. وقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في الوطن العربي في انتشار عمليات التكريس، فللأحزاب كُتابها الذين يترجمون أفكارها، وللطوائف كُتابها وللشركات كُتابها وللمنظمات كتابها ولدور النشر كُتابها، وللمجلات كُتابها. وبعد أن كان الكاتب مرتبطا بالأفكار المطلقة العامة والمعاني الإنسانية الكبرى والقيم الإجتماعية الشاملة، أصبح أسير الانتماءات الضيقة، وسجين المال والجاه والسلطة. وتنازل عن وظيفته لجهة أخرى، ولعل هذا ما يمكن أن يفسّر غياب الفعالية في الثقافة العربية. من هنا يمكن أن نفهم معنى أن يكون الكاتب صديق السياسي والعسكري والإداري في الوقت الذي يكون فيه عدو زميله الكاتب. هناك كُتاّب مؤهلون لأن يُصبحوا مكرَّسين أصلا، فأمزجتهم وبنيات شخصياتهم تسمح لهم أن ينفتحوا على المؤسسات غير الثقافية والتعامل معها، بل وعرض خدماتهم عليها. ولكنْ هناك من يستعصى على التكريس وهم ليسوا قلة. هذا لا يعني أن كل كاتب جيد هو صناعة مؤسساتية مكرسة يستمد قيمته من المؤسسة، ولا يعني أن كل كاتب مغمور هو كاتب جيد ولكنه يفتقد إلى مؤسسة تروّج له.هناك من كرّس نفسه بنفسه بفعل قدرته الإبداعية ومصداقيته وصدقه مع الكتابة والحقيقة والإنسان والمجتمع. فكرّس الآخرين له بدل أن يُكّرسوه هو لهم. والأسوأ أن القارئ، ومعه الناقد، يقع تحت تأثير ذلك التكريس، فهو يتفاعل مع الكاتب المكرس دون أن يكون على علم بهوية أدبه وكأنه في حالة خدَر، فهو لا يستطيع أن ينفك من الحكم الأول الذي مررته المؤسسة عبر إعلامها ومروجي بضاعتها. هذه ظاهرة في النقد الأدبي، إنه ينطلق دائما من الحكم الأول ولا يكلف نفسه إعادة قراءة النص. الانقياد للظاهرة المكرسة ظاهر في الثقافة والفكر العربيين. تقوم عملية التكريس بإلغاء دور المتلقين واستلابهم ومصادرة حرياتهم ومحو اختياراتهم وتوجيههم، وخلق نمط وهمي ليس هو الكاتب إنما شبيهه، له قدرة على التأثير والانتشار. أخيرا نحن في حاجة إلى نقد مواز لفعل التكريس يقوم بعملية الكشف عن مؤسسات التكريس وآلياتها وأهدافها وكتابها ووسائطها. محمد بن زيان/ ناقد وباحث للتكريس آليات مرتبطة بالدوائر النافذة سياسيا وثقافيا وإعلاميا وأكاديميا أسماء مكرسة وأخرى مهمشة، ويختزل التكريس والتهميش المسار، التكريس متعدد ومثله التهميش ففي بعض التكريس تهميش وفي التهميش تكريس لنمط الانكار والتنكر، نمط متصل بما تكرس من شبكة علاقات زبائنية وعصبوية.في سياقنا الجزائري نرصد ذلك في المقررات الدراسية وفي متابعات إعلامية وفي فعاليات ثقافية وأكاديمية.أسماء مكرسة لاعتبارات تاريخية وسياسية وأيديولوجية، ومن المفارقات أن التكريس ينطوي على تغييب المعرفة الحقيقية بالأسماء المكرسة بسبب اختزالات لا صلة لها بالجمالي والمعرفي،فكاتب ياسين يُنمط في قالب محدد ومالك حداد يُختصر في عبارته "الفرنسية منفاي". وهناك تكريس موصول بالتبعية لنمذجات مراكز الغرب والشرق التي تُسوق لأسماء محددة تبعا لاشتراطات ولمقتضيات السوق.وهو تكريس مرتبط بالميديا وما تفرزه من نماذج يتم التسويق لها بكيفيات تجذب، والجذب غالبا غير مؤسس ثقافيا.وللتكريس آليات مرتبطة بالدوائر النافذة سياسيا وثقافيا وإعلاميا وأكاديميا، آليات تميل لما يتوافق مع خياراتها واستراتيجياتها التسويقية وتحجب ما لا يخدم مقتضياتها. وفي أرشيف ثقافتنا ما يثير الأحزان، فالتغييب امتد ليشمل قامات لها شأنها في المنجز الجمالي والمعرفي والفكري، أسماء منها من غادر دنيانا مغمورا ومنسيا ومنها من يستمر مشعا رغم الحصار، أسماء كإسماعيل العربي وصالح خرفي وقريبع نبهاني ومحمد يحياتن ومحمد بن عبد الكريم وعثمان لوصيف ومحمد سحابة وحمودة بن الساعي وعبد القادر جغلول ويمينة مشاكرة...الخ. الاقصاء المكرّس، وقاعدة اشتراط الولاء والزبائنية،وبعض كُتابنا يتوهمون أن حضورهم مرتبط بتغييب غيرهم، نقرأ ذلك في تصريحات بعضهم خارجيا، تصريحات تنفي وجود آخرين في مقامهم وتتعاطى بنظرة متعالية مع الشباب المبدع وتسكنها الحساسية من كل متميّز، في حين أن الكبير يُقاس بالقامات التي تحيط به.والكِبار بالتسويق الإعلامي يتبادلون صراعات المشيخات القبلية والزعامات الطائفية. قبائل تنبعث ومشيخات لا ترضى بغير المريدين، والمرض ينتقل ولا يختص بجيل بل الطامة عمت وكل طرف يتوهم أنه المحور. دعاة إختلاف ينفون عمليا الاختلاف باقصاء الآخر.وتجارب مهمة تتوارى بسبب هيمنة سلطة العُصب، والنتيجة كارثة تُضاعف الخراب الثقافي، وبالتالي الخراب العام لأن الثقافي منطلق بقية المجالات. والاقصاء ليس من جيل ضد آخر، بل متداخل، ومع الاقصاء تفشي التملق والنفاق في التعاطي الانتهازي مع أسماء معينة ليس من منطلقات إبداعية ومعرفية ولكن لأنها أسماء لسجلات تجارية، وتغييب لأسماء لها قيمتها وتوقيعها. بعض الأسماء المُروّج لها إعلاميا تحمل عقدا وتُسقِط في استعراضاتها كل إسم جزائري ولو كان من قامة محمد ديب، بل أنها تعلن الحرب على البقية بكيفية حاملة لأعراض العِلة، في لبنان مثلا تم الاحتفاء بدخول معلوف للأكاديمية الفرنسية أما عندنا فالتغييب هيمن بل التهجم تم شنه ضد آسيا جبار، حالة جعلت أركون يحمل الغصة حتى رحيله كما ذكرت مؤخرا ابنته في حوار لها مع يومية الوطن. في ثمانينيات القرن الماضي لما صدرت رواية أحميدة عياشي "ذاكرة الجنون والانتحار" لم يلتفت لها سوى عمار يزلي في جريدة الجمهورية، وهو الحال الذي يتكرر اليوم رغم أهمية ما ينجزه مبدعون كعلاوة حاجي وهاجر قويدري والخير شوار ومحمد الأمين سعيدي وسارة حيدر ومصطفى بلفوضيل، وفي صحفنا المفرنسة تغييب لمن يكتبون بالعربية، في حين نجد في صحفنا المعربة دوما الحديث عن المبدعين بالفرنسية. منذ سنوات راسلني أستاذ جامعي برسالة للنشر في صحيفة محلية، تضمنت ما يفجع وما يختزل التعبير عن حالة التحلل، تضمنت ما تعرض له من حصار بسبب أنه لا ينتمي للجهة التي فيها الجامعة.ومنذ شهور سعيت من أجل تنظيم لقاء حول محمد سحابة وهو أحد شعراءنا المهمين بالفرنسية ومن المترجمين المتمكنين والمبدعين، لكن لا صدى لأن سحابة من سلالة المبدعين الذين لا يميلون للاستعراضات ولا ينخرطون في طقوس الانتماءات العصبوية. الاقصاء يتخذ أشكالا متعددة ويستحضر في ارتكازاته كل شيء إلا الإبداع والمعرفة، وتلك هي الكارثة. في تجارب سابقة برهن مبدعون على وجودهم وعطاءهم باحتضانهم للشباب المبدع وتشجيعهم بدون فرض الأبوية، نذكر جان سيناك،مصطفى كاتب وبن قطاف. إن المثقف هو المُنصت والمُتحاور، هو الذي مع إشراقة كل شمس، ينطلق مكتشفا، مسكونا الحقيقة، حقيقة تجعله يقول مع الإمام علي رضي الله عنه: "لا تحقرن صغيرا فإنه قد يكبر ولا قليلا فإنه قد يكثر". والنتيجة الهشاشة المتضاعفة التي جعلت الاختلالات تطبع الواقع في مختلف تفاصيله، ومن أهم الأسباب التواصل الغائب، تواصل النُخب وفاعليتها مجتمعيا. عز الدين جوهري/ كاتب وناقد ثَقافَة التَكريسِ مِن أبشع الشُّرورْ التي نَرتكبُها بِحقِّ الإبداعِ أُبتليتْ خَارطَتنا الثَّقافيَّة بِشُرور وآثام لا تريدُ أن تَنتهِي، تلَوثت مَعهَا رِئتُنا الثَّقافِية، وتَضَاءل بِسببها سَقفُ الفألِ الثَّقافي بانتعَاش الخَزينَة الثَّقافية لسَنواتٍ طَويلةٍ، نَحمِي مِن خِلالهَا اقتصَادنَا الثَّقافِي مِن الريَّاحِ العاتيَةِ التي تُعيقُ كلَّ تطوُّرٍ ونَماءْ، ولعلَّ مِن أبشع تلكَ الشُّرورْ التي نَرتكبُها بِحقِّ الإبداعِ، والثَّقافةِ عُمومًا هِي ثَقافَة تَكريسِ-تَكريشْ-بَعضُ الكُتاب-المَشكُوكِ فِي قِيمتهِم الأدَبية والإبْداعِية-، وتَمكينِهم مِن كُل المنَابر الثَّقافيَّة والفِكرية، لأسْبابٍ لا عِلاقَة لهَا بالإبداعْ، والتي تُدار غالبًا عَن طَريقْ شَبكةْ عِلاقاتِ عامَّةِ، مِن خلالِ المُلتقياتِ والنَّدواتِ الفِكريةِ والأدبيَّةِ، ووِفقَ المَزاج الشَّخصِي، ممَّا جَعلهمْ يَسكنونَ كلَّ صغيرةِ وكبيرةِ، ويستحْوِذونَ عَلى كُل ذَرَّة هَواءٍ، لانعاشِ رئَاتِهم التي تَفوحُ مِنهَا رَوائحَ تُزكمُ الأنُوفْ. إنَّه استْدعاءٌ مَشينٌ للقَبيلَة الثَّقافيَّة التِي تَجمَعهَا قَواسمَ مُشتَركَة مِن حَيثُ العائِداتِ الماديّةِ والمَعنَويَّةِ، بُغيةَ الاستِحواذِ عَلى كُل الفَضَاءاتِ المُتَاحةِ، وغيرِ المُتاحةِ، وعَبرَ كلِّ القنواتِ السَّمعيَّةِ، والبصريَّةِ، والمكتُوبةِ لدَحضِ كلَّ دَخيلٍ يُغرِّدُ خَارجً قَطِيعهْم الثَّقافِي، الذي يًرعُونَهُ بِسلطةِ المَالِ والأعمَالِ، والحَسبِ والنسَبِ، والمَركزِ والكِبرياءْ، ويَستأصِلونَ مَعهُ كُلَّ صَوتٍ جَادٍّ وعَميقْ، ويسلمونَهُ للجَحيمِ الأرضِي. أعرفُ كاتبًا عُمرهُ الشِّعري 31 سنة،30 كتابًا، لم يأكلْ قطُّ مِن لَحمِ قَصَائدهِ، تمنَّتْ أمَّهُ يومًا، أن يُرسلً لهَا مَا يَجنِيهِ مِن أرباحِ بيعِ كتبهِ، أو بالأحرى بيعً ألمهِ ونَزيفِهِ الحادْ، أوْ أن تراهُ عَلى شاشاتِ التِّلفزيونِ، أو تَسمعهُ عبرَ الرَّاديو كَما تتمنَّى كلَّ أمٍّ أبعَدتهَا الحَربُ القَذرةُ عَن أبنائها، وفرَّقتهمْ أيدِي سبأ، إنَّنَا مُطَالبونَ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مَضًى، إلى ضرورةِ إتاحةِ الفُرصةِ للجَميعِ سَواءً بِسواءٍ، وتمكينِ الجَميعِ مِمنْ نَشمُّ في نُصوصهمْ الجدِّيَةَ والإبداعية، مِن المنابرِ الثقافيةِ، والفكريّةِ، والمُساهَمةِ كلُّ باستِطَاعَتهِ في التَّنقيبِ عَلى الأصْواتِ الجَادَّةِ التي تشتغلُ على الهامشْ، والتي –في الغالبِ- أنقَى وأنظفْ، وأجملْ، وأكثرُ إبداعًا من الأصواتِ التي استحوذتْ عَلى كلِّ الفَضَاءاتْ، وراحَتْ تَنشرُ سُمومهًا وآثامَهَا، لتَسميمِ الإنسانِ والثَّقافة والوعيْ، وكذا الإنتباهْ إلى ضَرورة إخراجْ النَّقد والنقادْ مِن سباتهمْ الطَّويلْ، والإنخراطْ في إنقاذ المُحيطْ الثَّقافي مِن تكريسْ الأسماءْ ذَاتهَا، واللُّغة ذَاتهَا، والحَرفُ ذاتهُ، ومُحَاولَة الالتفاتْ إلى نُصوصْ أخرَى وأصواتٌ أكثرُ نَضارةً وشبابًا وطُموحًا، مِن الأصْواتِ المَبحُوحةِ التي تنعقُ في كلٍّ وادٍ بمَا ليسَ فِيهِ خيرُ الثَّقافَة والإبداعْ.. الطَّريقُ شاقٌّ. وَ بقليلٍ مِن المُكاشَفةِ والمُصارَحةِ، والإقرارُ بالخطأِ، نَصِلُ إلى الخَلاصْ. عبد السلام فيلالي/كاتب استهلاك ومحاباة لا يتحدد مفهوم التكريس بسهولة لما نربطه بالإبداع، لأن سُلم القيم جد نسبي في هذه الحالة.فقد يُكرس عمل فني لأجل الاستهلاك وفي هذه الحالة نحن أمام قيم "هوليودية". وقد يُكرس إسم ما لأهداف تتعلق بجماعات ضاغطة:إيديولوجية، مذهبية...إلخ. أو قد يُكرس إسم ما لدوافع الصداقة والصُحبة والمنفعة المتبادلة. صراحة لا أرى أي داع لربط مفهوم التكريس بالعمل الإبداعي، فمن موقع المعاين للساحة الثقافية منذ نهاية الثمانينات قرأت وعرفت العشرات من الأسماء، وخلاصة هذه المعاينة أن الأمر يتعلق أكثر بالاحتفاء المتبادل أكثر مما يُحيل إلى التكريس.لقد كُنت أشعر أن الاهتمام يتجه للشخص أكثر من إبداعه، وفهمت أن أمر الكتابة، سوسيولوجيا، يُحيل إلى رغبة عميقة لدى بعض الكُتاب إلى أن يكونوا محل إهتمام وتميز يجعلهم محظيين لدى دوائر معينة. وكم كان هذا الأمر مؤلما لي أشد الألم حينما اقتربت من بعض الأسماء المعروفة، لقد بدا الأمر عندهم وكأنه إضافة صفة كاتب إلى السيرة الذاتية.كنت أسير في تقدير الفعل الكتابي من أنه تمرد، تميز، تجاوز، تعال، إنسانية قصوى... ولكني فُوجئت أشد المفاجأة بأشخاص كثيرين ينتسبون إلى جماعة الكُتاب لكنهم لا يتجشمون عناء القراءة من حيث أنها المنهل الأول للكتابة، ولم يكن بعض الكُتاب المعروفين من الفئة الجديرة بالتكريم لأني وجدت أن الكتابة كانت صدفة طورت لديهم أسلوبا وكثير جدا من الكلمات غير المتداولة. وفي المقابل عرفت كُتابا اختفوا سريعا، اختفاءهم كان خسارة حقيقية. وفهمت أن الإبداع هو حاجة اجتماعية كما هو حاجة ذاتية، وأن الشعر فن يكاد لا يتعرف عليه عصرنا، وأن الرواية فن للخاصة.تأكدت لدي هذه القناعات مع اختفاء الصفحات الأدبية من الجرائد اليومية، وتحول إتحاد الكتاب إلى "نقابة"، والملتقيات الأدبية إلى "...وشباب". فعلا ضاع الذوق وسادت قيم "الستاد"، لم تعد الكتابة وسيلة للرقي والتهذيب.أفبعد هذا أهتم لِمَا أُصطلح عليه "ظاهرة التكريس"، كلا. قد تكون خيبة ما تملي علي مثل هذه الجمل، لكن هناك شيء ثابت ومؤكد من خلال استخدام منهج المقارنة يُصاغ في سؤال مركزي:كم رواية تصدر عندنا؟. والسؤال الفرعي الذي أطرحه وإذا صدرت كم عدد صفحاتها؟.المعذرة، أنا لا أُقر برواية "مجلة" أي بعدد صفحات لا يتجاوز المائة.لقد احترمت الرواية التي قبل أن تملأ جوارحي بالانبهار، أن تقنع يدي بحجم ما بُذل من عناء لأجل كتابتها، وأنا هنا أحدد القيمة الإبداعية بحجم التعب الذي بُذل.لا حاجة لي للتسمية، فقد تكرس الجديرون بالتكريس، وأما التهويل لعمل لا يستحق التهليل فهو كالسرقة الأدبية. محمد رابحي/ كاتب وناقد كُتاب الواجهة يَصلحون للعرض وللدعاية وهي وظيفة الفترينة كُتاب الواجهة في العالم العربي حقيقة ثابتة، وحقيقة مؤسفة، من هم؟ وكيف تقدموا المشهد الأدبي؟. أسئلة مُتاحة وقريبة المنال لكن لا أحد يطرحها، وصحافتنا الثقافية أضعف من أن تفعل ذلك، كُتاب معروفون وحاضرون لكن لا شيء يُبرر تواجدهم الطاغي، إذ أننا نقرأ عنهم لكن لا نقرأ لهم. والمصطلح للإشارة مهين ومسيء، وهو يختلف عن مصطلح كاتب مشهور أو كاتب نجم، حتى أنه يُستخدم في سياقات تشير إلى نوع من الكُتاب مكرسين لأغراض البروباغندا، يسميهم البعض "موظفو الأدب" أو "الكُتاب الرسميون". أرجح أن المسألة ليست بالسهولة التي نتخيلها فهي لا تحتاج إلى نُقاد بقدر ما تحتاج إلى خبراء في علم الاجتماع ومحللين نفسانيين ومختصين في التسويق، أحسب أن ما نراه ونحسه ونعانيه من مشاكل أو إعوجاج أو غرائب في المشهد الأدبي العربي، يجب ألا ننظر إليه على أنه حالات خاصة أو أحداث معزولة عن سياق شامل. ثمة منظومة ظاهرة وخفية في آن، خاطئة غير سوية، ترعى وتضمن هذا السوء والانحراف. الحركة الأدبية بمفهومها الصحيح لا بد أن تنتظم داخل واقع تؤطره مؤسسات كل منها تؤدي دورا ولعل أهمها السوق. فهي التي تحدد "قيمة" الكاتب. حسب ظني وتقديري إلى غاية مطلع الثمانينيات كان الواقع الأدبي في العالم العربي سويا ويحتكم إلى منطق وإن شابته أخطاء فإن هي إلا شذوذا لا يُقاس عليه. حيث كان المشهد واضحا ومرتبا، والإعلام "واقعيا" لم يكتشف بعد وجهه التجاري البشع، وكان هناك نقد على ضعفه نزيه. والقُراء موجودون بنسب أكثر وبمستويات وأذواق معقولة. أما اليوم فتسمع عن روائية تصل روايتها إلى طبعتها العشرين بينما تجد لها في مكتبة واحدة ثلاث طبعات منها مرصوصة ومكدسة، وترى بأم عينيك كاتبا يصنف ككبير بينما لا يستحي وهو يصدر مؤلفاته من "تكرم" صندوق دعم الإبداع التابع لوزارة الثقافة، وكاتب آخر يُقال إنه عالمي تصدر له روايات كهدية عدد لمجلة شهرية، طبعا لا يحدث هذا مع كُتاب حقيقيين يفرضهم سوق كُتاب وسوق قراءة. ويعملون ضمن آليات دقيقة صارمة. كتبت ذات مرة أن كُتاب الواجهة أو الفترينة إذا دققنا النظر وحكمنا العقل هم في نهاية الأمر يَصلحون للعرض للدعاية للتسويق وهي وظيفة الفترينة. لأن "الزبون" إذا أراد اقتناء شيء سوف لن يأخذ ما هو معروض وعرضة للغبار والرطوبة، وإنما يأخذ نسخة مخبأة محفوظة في علبتها. ميلود حكيم/ شاعر ومترجم الاستسلام إلى المتداول والرائج هو الذي ولّد ظاهرة الكُتاب المكرسين أعتقد أنه يجب النظر بريبة للمتداول في المشهد الثقافي العربي عموما والجزائري خصوصا، بالنظر إلى غياب المقاربة النقدية العميقة لما ينشر من كِتابات، وما يطلق من أحكام لا تستند عادة إلى رؤية وذوق جمالي. إن غياب النقد من هذا المشهد طيلة عقود أنتج ظواهر وأسماء لا تملك من الإبداع إلا شبهته. وهذا المتداول أفرز غثاثة أصبحت هي المقياس، وحدث اختلال في المعايير والمفاهيم، مع إدراكي لظاهرة الكتاب البيست سيلر في العالم باعتبارها ظاهرة غير أدبية ولكن إعلامية وترويجية في الغالب لكتابة سريعة تستجيب للذوق السائد وللاستهلاك السريع، إلا أنني أتعامل معها باعتبارها تحافظ على حضور للأدب في الفضاء العام، وتمنحه حياة ولو مختلفة. لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن الكتابة الحقيقية لا سند لها إلا وحدتها المعانقة لهوامش لا يطل منها أحد. من هنا كل كاتب مكرس هو متصالح مع المشهد والذائقة العامة التي تجد فيه رسوخ قيم معينة واستمرارها، إذ الكِتاب اللعين والمنبوذ هو المستفز دوما لكل جمالية مستكينة، وقيم متقاسمة بابتهاج المستنقعات. لهذا تبقى النصوص الكبرى في تاريخ البشرية غير مكرسة بل هي تواصل عملها الصامت في الهوامش المضيئة ولا يقرؤها إلا أولئك الذين يغريهم العمق الذي لا تسبر أغواره، إن كِتابا منتشرا بوفرة عمياء يثير توجسي، وأعرف أن لا قيمة جمالية له، لا أحب البساطة العقيمة والتسطيح المبتهج بانتشاره المهول. نحن نرى كيف يستسيغ بعض الكُتاب المرضى بظواهر الانتشار الوهمي لعبة التحول إلى مروجين وسماسرة لكتبهم، يفعلون كل شيء ليتم الكلام عن عملهم بل يصل ببعضهم الابتذال إلى درجة الكذب وخلق قراء وهميين، واستعطاف الناس من أجل حضور عابر في معرض للكتاب أو دخول لموسم أدبي لا نملك أبسط تقاليده. أعتقد أن الاستسلام إلى المتداول والرائج هو الذي ولّد ظاهرة الكُتاب المكرسين وغابت عنا دهشة الاكتشاف والمغامرة مع أعمال لا تملك من دعم إلا جمالها الأعزل وشراستها الموحشة. عندما تنتهي الوليمة وينفض المدعوون، وتخرس وسائل الإعلام المنافقة، وصفحات الفايسبوك المجاملة، تبقى النصوص الرهيبة حاضرة بقوتها الصامتة وجمالها المستفز. يجب التأكيد أن الأدب المهم ليس موجودا في الأماكن المكرسة والفضاءات المحجوزة مسبقا، والتي تُباع بطرق مريبة، ومشبوهة. الأدب الطلائعي والثوري يكون دائما ضد الذائقة العامة وضد التكريس والانتشار وضد الظواهر السوقية والاستهلاكية، لهذا لا يجب الاستسلام للظواهر المرضية في المشهد الثقافي البائس المحكوم بالأمية والمغالطات، ويجب البحث بتفان عن الكُتاب الذين يضيؤون الهوامش البعيدة ويصطادون اللآلئ البعيدة.