من خلال.. المسلسل الأخير، ما بعد "إقرار الدستور".. وأثناء زيارتي القصيرة للجزائر.. وأنا ذاهب للمطار، وإذ بأحد مرافقي يقول لي صراحة "إن الشعب مغيب وكأن الأمر لا يعنيه" وقد هزت مسامعي هذه العبارات.. وأصبحت أتساءل مع نفسي هل هذا الغياب هل هو إرادي أو موجه؟ فالمؤشرات الأولى تشير وكأن الدستور لا يعنيهم، أو غير معنيين بتاتاً، قد يرجع افترضاً لسوء الإخراج، أو بحكم أن الخطاب الرسمي المسبب لإخراج الوثيقة ثم صراحة الكشف على أن "البروفة" الأولى مسحوق تجميلي، أو جزئي وهو من غير الأولويات؟!.. * لذلك لا غرابة، عن ردة الفعل هذه.. وحتى أكون موضوعياً؛ فحتى تواجدي بالمقاهي، وبعد الجلسات كان التعديل الدستوري "مغيباً" ولم يرق للإهتمامات الشعبية. ويمكن إرجاع ذلك للعديد من الحيثيات، أهمها أن نفسية إخراج الدستور والبيئة المحيطة كانت ملغمة وغير مدروسة ابتداء من من الزيادات في أجور النواب التي فسرها البعض برشوة مقننة، والبعض الآخر فسرها بمكافآة مسبوقة، واختيار الاستفتاء البرلماني على حساب الاستفتاء الشعبي؛ فالبعض من السياسيي يرى وبدون تمعن أنه »حق دستوري لرئيس الجمهورية«، ربط المقدمات بالنتائج.. وبس!؟ * ومما زاد من البلبلة تلك "التسريبات" و"التصريحات" المسؤولة وغير المؤسسة، فذهب البعض لتوزيع الحقائب الوزارية على نفسه، فأصبح الدستور بالنسبة للمواطن البسيط هو إعادة تفصيل لبدلة من طرف ترازية القوانين.. أكثر من استراتيجية لتأسيس وتقنين نظام دستوري يواكب المرحلة، وخادم لتطلعات الجماهير، * فالدستور قد عرف تقدماً محتشماً في بعض المبادئ القيمية للمجتمع الجزائري، ولكنه لم يرتق لمستوى "الصدمة" المرجوة الناشئة للحيوية والديناميكة..!! * وتفسيري الشخصي لعدم اهتمام الشعب بالولادة "الوردية" على شاكلة جراحة تجميلية للدستور.. مؤشر على "إحباط" الأفراد بقدر ما هو نوع من الإستقالة الجماعية والإرادية عن الحياة السياسية لرداءتها وسوء الإخراج؛ فالتمثيلية "انتهت" وأسدل الستار حسب أحد المعلقين المرافقين لي.. ومما زاد من سخط هذا المرافق أنه تختلط أحيانا السياسة بالمال والأعمال والتسلق.. وإنني شخصياً كذلك لمست غلق المنابر للآراء والقراءات المختلفة للدستور وتعديلاته فما عليك إلا المباركة والتصفيق..!! * وبعد إقراره، فإن الأدهى والأمر أن البعض من طبقتنا السياسية يبشر بتعديلات أعمق وأكبر ويبشر بمستقبل مشرق، لذلك أكرر أن هذه التصريحات الإستعجالية وغير اللائقة من حيث الزمان والمكان، مؤسسة لردة الفعل، وإنني أعتبر الشعب هو الحزب الوحيد في الجزائر غير المرخص له، وقد ازداد تناميه مع كل محطة تاريخية.. وأحياناً جدران الشوارع وكتابتها هي برنامجه ومقياس درجة الحرارة.. فلنتدارك هذه الهفوات، وإنني لا أضخم هذه الأطروحة بقدر ما لمستها أثناء تواجدي القصير والخاطف في الجزائر.. فمن جهة قد نفتي صراحة بدون لبس أو تأويل أن السيادة الشعبية لا حدود لها؛ ولا يمكن حصرها من حيث الزمان.. وفي المقابل فإن طرح مشروع للتعديل الدستوري؛ حيوي وحساس فقط على البرلمان ولا مكان للسيادة الشعبية وكأن لها حدودا.. فهذه التناقضات هي التي ساهمت بوتيرة "القطيعة" بين مراحل إقرار الدستور والشعب والبرلمان! * فإن كانت الدساتير تعبر فعلاً عن إرادة الشعب في مراحل تاريخية معينة، مستلهمة انشغالاته واختيارته لتنظيم المجتمع الذي ينشده ونظام الحكم الذي يبتغيه، ألم تكون من الحكمة السياسية تمريره من خلال الشعب، وعدم تمريره برسالة مختومة من طرف برلمان مشكوك في شعبيته ونسبة تمثيله للوعاء الإنتخابي، فهذه الحقيقة المرة والمحرجة قد لمستها بعض أطياف الطبقة السياسية فنادت لذلك لانتخابات برلمانية مسبقة، وأنا صراحة قد أرى أنه من غير الممكن استخراج طحين أبيض (Farine) من كيس فحم، فهذه الحقيقة قاسية ولكن الحقيقة هي الحقيقة..!! * فالاختيار الحر للشعب، باعتبار الشعب في النهاية صاحب الكلمة، قد لا يحتاج لوكالة أو مندوبين لإقرار ما يجب إقراره، فأحببنا أم كرهنا فإن خيار الاستفتاء البرلماني خيار لا يصون الدستور على غرار الخيار الشعبي فيجعله في ابتزاز دائم ومستمر، وشماعة لمختلف التكهنات، بل أحياناً فإن الخيار البرلماني هو خيار سياسي بإمتياز؛ وظرفي وما أذهلني في الأمر أن بلدنا ليس الوحيد عالمياً الذين يتم فيه تعديل الدستور كل عشر سنوات على الأقل، وحتى أحياناً في مرحلة من المراحل وقع غلط قانوني بين مصطلح "تعديل" أو "دستورجديد" وذلك قد لا يدل عن الثراء القانوني بقدر ما يدل عن أن دساتير الجزائر كلها بدون استثناء دساتير أزمة تتحول فيما بعد إلى أزمة دستور تصطدم بعض أحكامه مع رغبة الحاكم أو "الطبقة" الحاكمة، فحتى طبقتنا المثقفة ونخبنا القانونية طالها التهميش والتراجع في ظل "احتلال" المساحة من طرف السياسي على حساب القانوني، وقد يكون عذرهم معهم بحكم أن الوثيقة الدستورية لم تسرب، حتى بعد خطاب النوايا للتعديل الجزئي وقد تراجعت شخصياً عن العديد من المقابلات، لعدم امتلاكي النص الدستوري، فتغييب المعادلة أحياناً قد يكون مقصودا ومفتعلا لغلق اللعب...