صافحني بحرارة كأنه على سابق علاقة بي، وتحرك في رواق طويل ينتهي إلى قاعة للاجتماعات، فتبعته مثل ظلّه، وتجنّبت أن أتساوى معه، مع أنه كان يحدثني عن قرب، فسحبني بحنان للسيّر معه جنبا إلى جنب... * كانت تلك المرة الأولى والأخيرة، التي رأيته فيها وتمكّنت من محادثته بشكل مباشر، وبالّرغم من أنني تناولته في أعمال صحفية كثيرة، كان معظمها حوارات انتهت إلى نقده، إلا أنني في تلك اللحظات أحسست بتاريخ الجزائر الثائرة والمستقلّة يتجّمع فيه، لا ينجذب المرء إليه بسبب قوة شخصيته فقط، وإنّما لصوته القادم من أعماق يطغى عليه الحنين إلى سنوات المجد... لم يقهره عامل الزّمن ولا أفول مرحلته نجما وقائدا وزعيما... إنه الرئيس »أحمد بن بله«، الذي من أحل في القاهرة، في ذلك اليوم من خريف دموي في الجزائر، حتّى شكّل الحدث. * * لا تزال عباراته مرسومة في ذاكرتي بعد اثنتي عشرة سنة تقريبا، لأنها جمعت بين الأمل وتجربة المحنّك، المدرك لعواقب الأمور، وكنت أود أن تظل محفورة في عقلي وقلبي دون أن أعلن عنها، لكن أجدني اليوم مضطرا إلى ذكرها بعد التصريحات الأخيرة للوزير الأول ووزير الخارجية المغربي السيد عبد اللطيف الفيلالي في برنامج »زيارة خاصة«، الذي بثّته قناة الجزيرة، السبت الماضي (29 / 12 / 2008)، وسأعود لشرح ما ذكره الفيلالي لاحقا، بعد سردي لأهم ما أوصاني به الرئيس »بن بلّه« في ذلك اليوم، وأختصره في قضايا رئيسة ثلاث، هي: * أولا: أن المحنة التي تمر بها الجزائر يقصد الإرهاب ستخرج منها قوية، وهي لا تعتبر أزمة كبرى بمقارنة مع حالات سابقة من تاريخها، وعلى جيلكم أن يكون مفعما بالأمل ومقتنعا بخروجنا من الأزمة، فلا تيأسوا أو تهنوا أو تتراجعوا. * ثانيا: الجيش هو المؤسسة الأهم في البلاد، وقد عملت منذ ظهرت على حماية البلاد من الانقسام والضياع، لذلك لا يكون الجيش لديكم محل شك أو ريبة أو شبهة أو حتى محل اتهام، وعليكم مؤازرته ومساندته، حتى يتمكّن من القيام بدوره التاريخي. * ثالثا: إن إخواننا المسؤولين في المغرب لا يحبّون لنا الخير، ومواقفهم تشهد على ذلك، وهي مسجلة تاريخيا، فاحذروهم. * لم يضف الزعيم بن بلّه شيئا، بعد أن أنهى حديثه عن علاقتنا بإخواننا في المغرب، وكنت أتمنى منه مزيدا من الشّرح، لكن لم يكن في الوقت متّسعا، لأن الرئيس »بن بلّه« ما كان يحدثني من أجل الجدل، بل كان يلّقن تجربته لأبناء جيلي، ومع ذلك فقد أدهشني ما ذكره بخصوص العرب، وقلت في نفسي لحظتها: أن الزعماء التاريخيين في البلدين يسحبوننا إلى عالمهم الخاص المليء بالمكائد والمؤامرات، فلماذا الإصرار على العداء التاريخي بين الدولتين؟ * إجابة السؤال السابق وجدتها عند »عبد الطيف الفيلالي« في كتابه »المغرب والعالم العربي«، الذي حمل فيه على كثير من القادة والسياسيين العرب منهم الرؤساء: أحمد بن بلّه، هواري بومدين، الحبيب بورقيبة، زين العابدين بن علي، معمر القذافي، كما لم يسلم من نقده الزعيم العربي الكبير »جمال عبد الناصر«. * بالتأكيد أن الفيلالي يملك من المعطيات والأسرار والشهادات التي بنى عليها مواقفه، وتلك ليست القضية التي نودّ مناقشتها، لأنّ لها أهلها، ويهمنا هنا الجزء الخاص بالحديث حول ما عرف ب»حرب الرّمال« و»الجزائر التاريخية«، و»مساندة الجزائر لإسبانيا على حساب المغرب«، وهي من المواضيع التي تتطلب موقفا حاسما من أهل الاختصاص (المؤرخون والسياسيون)، لأنّه بالنسبة لجلينا، نعرف معنى الحديث عن الدول بحقيقتها التاريخية، حتى لو حاول السياسيون طمس الحقائق لحسابات خاصة. * ليس دفاعا عن الجزائر، لأنني كنت ولا أزال مؤمنا بديني وعروبتي ووطني العربي الواسع، وكل ذلك يبدأ بالاهتمام حبّا وبحثا وولاءً للدولة الوطنية، خصوصا إذا جاءت جغرافيتها وتاريخها نتاج جهاد ونضال رجال، ما قبلوا لحظة بأسلوب الترغيب ولا وسائل التعذيب التخلي عن ذرّة من تراب الجزائر، التي يراها الفيلالي في أواخر عمره نتاج الحدود الاستعمارية لفرنسا، وليست إنجازا جهاديا، اختار الجزائريون فيه مواصلة الحرب مهما كانت التكلفة، في وقت اختار فيه إخواننا طريق الاستقلال المرحلي. * مع ذلك كلّه فالدّولة الجزائرية حقيقة ثابتة من خلال السّجلاّت التاريخية، وخيارنا الانضمام للدولة العثمانية كان خيارا وحدويا، تلاقت فيه رغبة الحماية لشواطئنا البحرية مع القبول بالدور الإٍسلامي للأتراك، الدليل عن ذلك أننا من الدول العربية القليلة التي ترفض أن تعتبر الوجود التركي في بلانا استعمارا، وهذا على عكس الغالبية من الدّول العربية في المشرق، لهذا أعتبر ما ذهب إليه الفيلالي في رده على الرئيس »بن بله« بعد خمس وأربعين سنة أمرا مثيرا للاستغراب. * من جهة أخرى فإن قوله بأن الملك الرّاحل »الحسن الثاني« قد سحب جيشه حفاظا على الأخوة، ولو ترك الأمر للقادة العسكريين لوصل الجيش المغربي إلى وهران واستولى عليها، بحجة أن الجزائر لم يكن عندها جيش نظامي آنذاك، وهي التي هزمت الحلف الأطلسي، كلام مجافٍ للحقيقة، لأن البادئ بالاعتداء هو المغرب مما دفع بالجزائر المستقلة أن تستعين بقوات شقيقة وصديقة، ثم أن التراث الشعبي الجزائري على مستوى الأغنية يكشف عن إحساس الجزائريين بالألم من الفعل المغربي. من ذلك المقطع القائل »يالمغربي ياخويا، يك أنا وأياك اخوان ونصه باللغة العربية الفصحى (يا مغربي يا أخي... ألسنا أنا وأنت إخوانا؟!«. * بعيدا عن تركة الماضي وميراثه، الذي لايزال مؤثرا فينا، ليس هناك من مبرر للسياسيين القدامي في دول المغرب العربي عموما، وخاصة في المغرب والجزائر، أن يجعلونا أسرى الماضي الأليم، وليعلموا أن الماضي المغاربي مثل الماضي العربي مليء بأزمنة حب وتعاون ومشاركة، وليس فقط كراهية وصراع وابتعاد، ثم أن هناك أجيالا جديدة تعيش في عالم تسير دوله نحو الاتحاد والتعاون، وهي لا تنسى ولا يمكن لها أن تنسى أفكار الوحدة منذ خمسين سنة، حين التقى القادة المغاربيون في مؤتمر طنجة في 1958 ليطرحوا مشروع المغرب العربي في المستقبل، لكن حين تحررّت الأوطان فضلوا عنها الكراسي ورسّخوا مفهوم الدولة القطرية، التي تحلم بأن تكون جزءاً من أوروبا، فأصبحنا دولا شاردة في العالم، وهذا نتيجة أفكار الفيلالي وغيره من القادة في دول المغرب العربي، الذي لم يعد له وجود له إلا كجغرافية، أو أملا وحلما في قلوب المخلصين من أبنائه، أو ذكريات على الورق.