المحدد العسكري هو أحد محددات القوة، ولكنه يرتبط بالعناصر الأخرى للقوة، فالاقتصاد هو الذي يموّل المؤسسة العسكرية وبرامجها للتسلح والتطوير التكنولوجي، والقوة العسكرية والاقتصادية إضافة إلى طبيعة النظام السياسي هي المحددات المتغيّرة لصناعة القرار وقوة الدولة، ولكنها ترتكز على العوامل الثابتة المتعلقة بالجغرافيا والديموغرافيا. * * والوقع أن تجربة العرب في إدارة الصراع العربي الصهيوني، انتقلت من بعدها العربي إلى بعدها الوطني، وها هي تنتقل إلى بعدها الفصائلي، ولذلك يصبح من المهم اختبار العامل العسكري في إدارة الصراع لإدراك عوامل القوة وعوامل الضعف لدى المقاومة الفلسطينية. * * عوامل الضعف * * لعل أهم عوامل الضعف الفلسطيني الذي يواجه المقاومة، هو الانفصال الجغرافي والسياسي بين الضفة وقطاع غزة، إذ يتيح ذلك إمكانية توظيفه لصالح العدو الصهيوني من جهة، كما يعقد قدرة المقاومة على السيطرة العملياتية سواء في المجال السياسي أو في المجال العسكري، وحري بنا أن نوضح أن ذلك الانفصال الجغرافي لم يكن من مسؤولية فتح ولا حماس، فقد كانت الضفة الغربية تحت إشراف الإدارة الأردنية وكانت غزة تحت إشراف الإدارة المصرية، وقد كرّس اتفاق أوسلو هذه الانفصالية برفضه لأي ارتباط جغرافي بين شطري الوطن الواحد، ولذلك فإن ما لحقه من الانقسام السياسي هو النتيجة وليس هو السبب. وقد لاحظنا كيف كان للانفصال تأثيره السلبي في دعم المقاومة في العدوان الحالي على غزة، فبالرغم من التحركات التي تقوم بها مختلف الفصائل إلا أن العامل الرئيسي في الضفة هو دور الأجهزة الأمنية للسلطة التي استطاعت منع توسيع رقعة المقاومة العسكرية للضفة. * العامل الآخر في ضعف المقاومة اليوم يكمن في غياب قاعدة آمنة في المحيط الإقليمي قادرة على مد عوامل الصمود للمقاومة، خاصة مع ارتباط هذا المحيط باتفاقيات أمنية مع العدو الصهيوني يتم بموجبها التزام كل من الأردن ومصر بمنع استعمال أراضيها لصالح أي طرف في مواجهته لإسرائيل. وقد اتضح ذلك جليا في معاناة الفلسطينيين لسنوات أمام الالتزام المصري بغلق معبر رفح، وخاصة في العدوان الأخير على غزة، ولذلك على المقاومة أن تبتكر البدائل الممكنة لذلك. * مسرح المواجهة العسكرية هو أيضا من العوامل التي تؤثر سلبا على المقاومة، فالقانون الدولي الذي يبيح الاستخدام العسكري لصالح تقرير المصير، هو نفسه القانون الذي يعترف بوجود الكيان الصهيوني، وبالتالي فإن كثيرا من القوى المؤثرة والفاعلة في المجتمع الدولي لا تمنح الحق للفلسطينيين في مواجهة عضو في الأممالمتحدة اسمه »إسرائيل«، وبالتالي يصبح الحق في المقاومة ينحصر في الأراضي المحتلة عام 1967م فقط. ولأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية تأثيرها الواضح والسلبي على المقاومة، فمع التأثر الأمريكي بالحدث لم يصبح للنسق الإقليمي دوره في ترتيبات الأمن الإقليمية، وأصبح النسق الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية هو العامل الأساسي في تلك الترتيبات، وبالتالي لم يكن منتظرا من الوجهة الموضوعية أن يكون للجامعة العربية أو أي تنظيم إقليمي أن يقوم بدورة في دعم صمود المقاومة أمام الفيتو الأمريكي تجاه أي سلوك تعتبره معاد لمصالحها في المنطقة. * الأمر الآخر ويتعلق بتوصيف المقاومة، فالفلسطينيون يعتقدون أنه من حقهم الدفاع عن أنفسهم كما تقر بذلك القوانين الدولية، ولكن ما يسمى بالمجتمع الدولي فصل في موضوع المقاومة الفلسطينية بوضعها في خانة الإرهاب خاصة منذ مؤتمر شرم الشيخ عام 2005م. * ولذلك يصبح من الصعب إقناع الرأي العام الغربي بالفصل بين المقاومة الفلسطينية وخاصة بقيادة حماس والجهاد الإسلامي ووصف الإرهاب الذي ألحقه بها المجتمع الدولي برعاية عربية، فالتنظيمات الفلسطينية تقع ضمن قوائم المنظمات الإرهابية لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي وغيرها، وهو ما يعرقل بناء علاقات خارجية متوازنة لصالح المقاومة. * ويؤثر العامل الاقتصادي بدوره سلبا على أداء المقاومة، فلا يوجد أفضل من التجربة الاقتصادية الفلسطينية لإسقاط نظرية المركز والمحيط. * فالاقتصاد الفلسطيني هو تحت السيطرة الإسرائيلية بنسبة تتجاوز 85٪، كما أن ميزانية السلطة الفلسطينية تقوم على المساعدات الخارجية وخاصة من دول الاتحاد الأوروبي وبعض المساهمات العربية، وهو ما يجعل الاقتصاد الفلسطيني خاضعا للمركز الإسرائيلي، وهذا الأخير يستمر في الاستفادة من النظام المالي والضريبي والتجاري من المحيط الفلسطيني، أكثر من استفادة الفلسطينيين أنفسهم. * ولم يتم الاكتفاء بذلك، وإنما تم وضع الاقتصاد الفلسطيني تحت المراقبة المشددة بفرض سلام فياض كوزير دائم للمالية في مختلف الحكومات الفلسطينية ثم رئيسا لحكومة تصريف الأعمال، وذلك لأن ياسر عرفات كان متهما بتسريب جزء من أموال السلطة للمقاومة. ولذلك على المقاومة أن تبتدع الوسائل المختلفة لتعويض ذلك، دون أن تقع تحت تأثير المال السياسي الذي يمكن أن يرهن خياراتها المستقبلية، ولعل أفضل الخيارات في هذا المجال هو الاتكال على النفس. * * عوامل القوة * * تستمد المقاومة الفلسطينية اليوم أول عوامل القوة من شرعيتها فسكان الضفة والقطاع حسموا خيارهم الاستراتيجي في انتخابات 2006م، باختيارهم لبرنامج المقاومة فضلا عن التأييد الذي يجده في دول الشتات الفلسطيني. كما تستمد المقاومة شرعيتها من حق الشعوب في تقرير مصيرها المستند إلى القانون الدولي. * أما العامل الآخر فهو قدرة المقاومة الفلسطينية في نقل الصراع من الخارج إلى الداخل، فقد كانت الحروب السابقة مع العدو الصهيوني بقيادة عربية ثم بقيادة فلسطينية في بيروت ولكنها اليوم في أحضان الشعب الفلسيطيني المهيأ موضوعيا لدعمها وخاصة في غزة حيث أن حوالي 70٪ من سكانها هم من اللاجئين الذين يحلمون بحق العودة إلى أسدود وبئر السبع والمجدل وغيرها من المواقع التي رُحّل منها سكان غزة والتي تطالها اليوم صواريخ المقاومة. * إن انتقال المقاومة من الخارج إلى الداخل يعني المزيد من استقلالية قرار المقاومة الفلسطينية الذي كان رهينا في كثير من المرات للسياسات الرسمية العربية ومصالح بعض دول المنطقة. * ولعل الشتات الفلسطيني على ما يبدو في ظاهره كعنصر من عناصر الضعف إلا أنه في الجوهر عامل من عوامل القوة، حيث احتفظ للفلسطينيين في سوريا ولبنان والأردن بالقدرة على التأثير في تلك المناطق بما يخدم مشروع المقاومة، ولعل الجميع لاحظ الدور الذي قام به اللاجئون في تلك الدول وتأثيرهم في تحريك الرأي العام في تلك الدول بما يضغط باتجاه خدمة أهدافهم الوطنية. * وتستفيد المقاومة أيضا من مواقف بعض الدول الإقليمية التي لم تعد تحتمل وجود قوة إقليمية معادية للمنطقة ومؤثرة فيها وهي إسرائيل، خاصة أمام التحولات المنتظرة في مراكز القوة الإقليمية لصالح تركيا وإيران وإندونيسيا. * والعدوان الأخير على غزة يكون قد أضاف عوامل إضافية لقوة المقاومة، خاصة تلك المتعلقة بتحرك الرأي العام العربي والإسلامي وحتى في العديد من الدول الغربية اللاتينية. * حيث أن فقدان إسرائيل لمكانتها وشرعيتها أمام العالم يعني المزيد من القوة والشرعية للمقاومة باعتبار الصراع العربي الصهيوني صراعا صفريا حيث أن خسارة لدى طرف هي ربح للطرف الآخر. * * (*) أستاذ بكلية العلوم السياسية والإعلام