اختتمت مجموعة العشرين قمتها بالعاصمة البريطانية لندن بداية هذا الشهر على أمل اللقاء شهر سبتمبر المقبل بمدينة نيويورك لتقييم مسعى تنفيذ التدابير المتفق عليها بشأن معالجة الأزمة الاقتصادية العالمية. * وكانت قمة لندن أوصت بضخ 5 آلاف مليار دولار في الاقتصاد العالمي وتمكين مؤسسات "بريتون وودز" من إعادة الرسملة بمقدار 1100 مليار دولار، إلى جانب إنشاء هيئة دولية لمراقبة أسواق المال وضمان الشفافية ومحاسبة الدول التي تحولت الى جنات للضرائب. هذا ما يبدو على سطح المناقشات التي ضمت اليها 22 دولة من دول المعمورة تمثل 85 بالمائة من إجمالي الناتج العالمي و80 بالمائة من حجم التجارة بين الدول، فماذا بقي في الكواليس من إشارات قد تغير من خارطة الاقتصاد العالمي وتدفع بشعوب المعمورة الى عهد جديد؟ * * جنون واشنطن وتعقل باريس * * كادت قمة العشرين الأخيرة أن تفشل لولا أن تسابق الجميع الى إيجاد توافق ذكي بين جنون أمريكا وتعقل فرنسا. ففي عشية انعقاد القمة شرق لندن، هدد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالانسحاب بمجرد تأكد بلاده من الطابع النمطي للحلول التي مازالت الإدارة الأمريكية تقترحها لمواجهة أخطر أزمة عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية وأول أزمة من نوعها في ظل عولمة الأسواق. واعتبرت المستشارة الألمانية، إنجيلا ميركل، موقف فرنسا عين العقل وأيّدت فكرة البحث في نظام اقتصادي جديد لايزال لحد الآن مجهولا ولكنه يختلف عن النظام الحالي بكل تأكيد. ويقوم النظام الاقتصادي الحالي على أدبيات المدرسة »النقدوية« في تنشيط الاقتصاد وهي المدرسة التي تؤمن بفعالية خلق النقود في خلق الطلب الفعال ومن ثمة حفز الإنفاق الاستثماري وإنشاء الوظائف. * * وهكذا جرى التوافق بين الاتجاه النقدوي في استمرار العمل بآلية النقود والاتجاه الجديد القائم على أخلقة الاقتصاد والرقابة على الأسواق، والمهم في كل هذا أن اتجاها مذهبيا جديدا أخذ في التبلور تقف وراءه كل من فرنسا وألمانيا وتدعمه الصين بمثلها الشائع: »الجنون هو أن تؤمن بأن طريقا واحدا يؤدي الى مخارج مختلفة«، ومادامت واشنطن لازالت تتبع نفس الطريق للوصول للاقتصاد العالمي الى وضع مختلف فهي بذلك تكرس الجنون، في حين يبحث الجميع عن مسلك آخر لم يتحدد بعد. * * البنك الدولي يستعيد دوره التاريخي * * لماذا تصر واشنطن على مطلبها في إعادة رسملة صندوق النقد الدولي لتقفز موارده 3 مرات من 250 مليار دولار إلى 750 مليار دولار؟ ولماذا منحت مجموعة العشرين في قمة لندن هذه المؤسسة ما قيمته 1100 مليار دولار منها 500 مليار دولار لرسملة الصندوق والباقي يتوزع بين دعم التجارة بين الدول ومساعدة الدول الفقيرة؟ * يبدو أن هناك إجماعا دوليا على توسع الغيوم القاتمة في سماء الاقتصاد العالمي خلال العامين 2009 و2010 مما يدفع بصندوق النقد الدولي الى استعادة دوره التاريخي في تمويل موازين مدفوعات الدول العاجزة. وهذا يعني أن الانهيار المالي الذي بدأت بوادره العام 2007 سيمتد قريبا الى مدفوعات الدول أغلبها، وخاصة الدول الصناعية الكبرى ومجموعة الكاريبي. وسيطال الإنكماش حجم التجارة العالمية وتزداد حاجة الدول الفقيرة الى المساعدات الإنسانية على وقع ارتفاع أسعار الغذاء. لأجل ذلك رصدت قمة العشرين الأخيرة كل تلك المبالغ لمقاومة هذا المشهد القاتم. وبالفعل ذكر تقرير أخير للبنك العالمي، أن التجارة العالمية ستنكمش خلال العام الجاري بنسبة تزيد قليلا عن 6 بالمائة. وسيدفع ذلك في أثر مضاعف إلى انكماش الإيرادات الضريبية بصورة تهز موازين مدفوعات الدول. أما انكماش الناتج العالمي من السلع والخدمات فسيقترب من نسبة 1.7 بالمائة كمعدل عالمي، و3 بالمائة كمعدل يمس مجموعة التعاون الاقتصادي الأوربي، و2 بالمائة يطال الدول الصناعية الكبرى التي تتوقع معدلات نمو سالبة خلال العام الجاري على الأقل. انكماش سيدفع بما لا يقل عن 25 مليون موظف إلى البطالة في منطقة اليورو وبعدد يزيد عن 50 مليونا على الصعيد العالمي وأرقام من شأنها أن تزيد من كلفة التحويلات الاجتماعية وإعانات البطالة في الدول الصناعية على حساب مساعدات التنمية التي أقرها برنامج الأممالمتحدة للألفية. ولهذا كله قرر الكبار إعادة رسملة صندوق النقد الدولي. * * الثغرة المطلوبة في الطريق المسدود * * لا يملك تيار واشنطنلندن حلاّ أفضل من ضخ السيولة في الاقتصاد العالمي للحفاظ على الطلب الكلي واستمرار عمل الآلة الرأسمالية، ومبلغ بمقدار 5 آلاف مليار دولار أي 5 ترليون دولار لم يكن يخطر على بال أحد حتى الساعات القليلة التي سبقت حفل الإعلان عنه. والكل يذكر كيف اهتز مجلس الشيوخ الأمريكي عندما اقترحت إدارة بوش السابقة خطة إنقاذ قدرها 700 مليار دولار وهو رقم لا يساوي شيئا أمام الرقم الجديد. وبقدر ما أن الرقم هائل بدأت الشكوك تسري حول إمكانية توفير مصادره، البعض يتحدث عن عمليات لتسييل الذهب، والبعض عن اللجوء للاقتراض من الصناديق السيادية والقطاع الخاص، والبعض لا يستبعد طبع المزيد من الدولار على المكشوف. خطوات محتملة دفعت بالصين الى الشروع في تحويل احتياطيها من الورقة الخضراء الى حقوق السحب الخاصة خوفا من انهيار العملة الأقوى في العالم، وبالمملكة لسعودية الدولة العربية الوحيدة في مجموعة العشرين إلى نفي استخدام صناديقها السيادية في تمويل صندوق النقد الدولي إيمانا منها بعدم جدوى مثل هذه السياسة، وبمؤسسة الدراسات السياسية والاقتصادية في واشنطن الى التشكيك في نجاعة إعادة رسملة مؤسسات »بريتون وودز« قبل إصلاح جذري لمنظومة النقد الدولية. * هناك إذن طريق مسدود يرتسم أمام الخيار الأمريكي البريطاني القائم على المدرسة »النقدوية« وضخ السيولة بمعزل عن إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي المبني على الليبرالية الجديدة وحرية التجارة، في حين يحاول الخيار الفرنسي الألماني التحرر من أدبيات المدرسة التقليدية في الاقتصاد وإحداث إصلاحات جذرية في النظام الاقتصادي الدولي القائم. * ولا أحد لحد الساعة تمكن من إحداث الثغرة المطلوبة في الطريق المسدود عدا بعض المحاولات التقنية لإدماج منتجات المصارف الإسلامية في النظام البنكي العالمي وهي محاولات لا تخلو من أثر إيجابي على المدى المتوسط إذا ما وضعت في سياقها المذهبي وعرضت ضمن نظام متكامل للاقتصاد قد يشكل البديل الذي يجري البحث عنه هناك في كواليس مجموعة العشرين.