عندما توفي الشيخ ابن باديس منذ 69 سنة ترك مدينة قسنطينة من دون أي مشعوذ، فقد حاربهم تماما كما حارب المستعمر، وكان يقول »هؤلاء قضيتي« فهجروا المدينة.. والآن بعد رحيل الشيخ ونسيان تعاليمه عاد الشوافون والمشعوذون وعاد معهم الجهل، وعادوا بحثا عن وسائل الجذب التي تجعل المغفلين يبتلعون الحيل جميعها. * * "الزواج، الخِلفة" طعمهم وكلهم حجاج * أحجبة صالحة لكل زمان ولكل الزبائن * * كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا من أول أيام الأسبوع، وكنت رفقة زميلين لي من الجريدة أين قررنا الذهاب إلى منزل إحدى »الشوافات« بأحد الأحياء الراقية والمعروفة بمدينة قسنطينة، فضولا منا لمعرفة ما تقوم به هاته المشعوذة وما تتنبأ به لزوارها خاصة العنصر النسوي المريض بهذه الخزعبلات. * اتفقت أنا وزميلاي على الدخول بمفردي إلى هاته المشعوذة، بينما يبقيان ينتظران بالسيارة إلى حين عودتي تفاديا لأي طارئ، عندما قرعت الباب فتح لي شاب على الأرجح يكون ابنها وهدت إحدى الشابات المتواجدات بالمنزل لاستقبالي والترحيب بي، أحسست حينها كأنني عند إحدى قريباتي أو صديقاتي، وخولتني إلى إحدى الغرف وكانت مجهزة تجهيزا فاخرا لأبقى هناك أنتظر دوري على حد قولها، بقيت في تلك الغرفة حوالي ربع ساعة من الزمن إلى حين مجيء دوري، وبعدها نادتني وأدخلتني إلى الغرفة المجاورة مكتوب على بابها »قاعة العمل« حينها فوجئت بتواجد سيدتين إحداهما طاعنة في السن والأخرى في الأربعين من عمرها، هنا أصبحت في حيرة من أمري أيهما "الحاجة" الشوافة لا أخفيكم الأمر ظننتها العجوز وإذا بها السيدة الشابة التي كانت على قدر من الجمال والأناقة في لباسها وحلتها، جلست بقربها على أحد الأرائك المقابلة لها، ثم سألتني عن حاجتي إليها، وسألتني كذلك عن نوع الأوراق التي أريد أن أستطلع من خلالها، أوراق الخمس مائة دينار أو أوراق الألفي دينار، وبما أني ذهبت في إطار عمل من كشف حقيقة الشعوذة والمشعوذين للناس فلن أساهم طبعا في تحريضها بطلب المزيد وأحثها على مواصلة هذا العمل الرخيص والدنيء، فأجبتها »الله غالب لا أملك المبلغ لا هذا ولا ذاك، وما في جعبتي سوى 200 دج فقط لأني بطالة ومتخرجة حديثا وأبحث عن عمل، لهذا الغرض أتيت لزيارتك لمساعدتي على إيجاد عمل إذا أمكن، كما أني جئت خفية عن أهلي فلو علموا لذبحوني أو منعوني من الخروج مرة أخرى، خاصة وأني أقطن خارج الولاية". * حينها أجابتني بكلمة "ما عليش" وأخذت ورقة 200 دج ثم خاطبتني وكأنها تأمرني "سبعي الأوراق على قلبك سبع مرات" مشيرة لي بيدها بحركات دائرية على مستوى قلبي، وطبعا تظاهرت وكأني سبعتها على قلبي سبع مرات على حد قولها، ثم أخذت توزع الأوراق على الطاولة التي كانت تتوسط مجلسنا ثم طلبت مني أن أعاود الكرة فإنه لم يظهر أي شيء على الورق كما قالت، فرأيت أنه لا مفر من ذلك فسبعت الأوراق للمرة الثانية وهنا فعلا تبدأ الحكاية بعد أن قامت بتوزيع الأوراق على الطاولة... * * خلط للأوراق ولعب بالعقول ...تكهنات كلها بشائر * بعد توزيع الورق على الطاولة تمعنت قليلا فيها ثم باشرت الحاجة -كما تسمي نفسها- في سرد أكذوباتها على مسامعي، وقالت لي لنبدأ أولا بالحاجة التي حضرت من أجلها وهي العمل فابشري هناك عمل جيد ولائق بك في انتظارك هاته الأيام، وهو عمل متعلق بالدولة أو الحكومة كما قالت في الشرطة أو في الديوانة (الجمارك) والجميل في الأمر أنه بأحد الولايات الساحلية مثل عنابة أو الجزائر العاصمة... في هذه النقطة تظاهرت لها بالفرح والسرور والبهجة ووعدتها بهدية جميلة إن تحقق هذا الأمر على أرض الواقع في أقرب فرصة، حينها تشجعت وواصلت خزعبلاتها بكل ثقة وتباهٍ وكأن الرزق بيدها لكنه قد يكون خلال ثلاثة أشهر أو ثلاث سنوات، واستجمعت أوراقها مرة أخرى وقالت إن زواجي سيكون في نهاية 2009م... * * تكهنات ميتافيزيقية .. كلام في الخِلفة والسحر * كانت هذه المرحلة الأخيرة من توزيع أوراقها أين دخلت في حكاياتها عن الجانب العائلي وأخذت تسألني إن كان لي أخوات متزوجات أم لا، فأجبتها عندي الكثير، والحقيقة أنه ليس لي سوى واحدة فقط متزوجة، وقالت لي: توجد إحداهن لم تحمل بعد قلت "نعم" ولكن للأسف أختي متزوجة وأم لطفلين، قالت: إذن ترقبوا هذه الأيام سوف يرزقها الله سبحانه وتعالى بحمل!.. طأطأت رأسها ثم وجهت إلي النظر وقالت: هناك من أخواتك معمول لها على الزواج والفرح ولا بد أن تتحركوا لإزالة هذا المعمول، وأنا لذلك إذا أردت. أجبتها: "طبعا" ثم تنبأت بمجيء ورقة لأحد إخوتي من طرف الدرك أو الأمن إما من أجل الخدمة الوطنية أو أمر آخر يتعلق بالمحكمة، وعندك واحد من إخوتك أيضا يريد أن يهاجر ويقطع البحر ويهدد بالحرڤة في كل مرة، وفي الأخير نصحتني بإحضار راق إلى المنزل فالعائلة بأكملها مهددة بالعين من الأم إلى آخر العنقود، واقترحت علي بعض (الحشاوش) الخاصة بها لطرد العين والنحس من المنزل... * الشيء الذي لم أذكره لها إطلاقا وراحت تصفني بأنني أحسن بنات العائلة وعلى حظ وافر من الحب والاحترام بينها، وقالت لي "ترقبي هذه الأيام فالرزق في طريقه إليك سواء كان منزلا أو محلا تجاريا، كما يأتيك شاب ليس لك به أي صلة فيهبك مبلغا كبيرا من المال فلا تترددي في استلامه، فنية الشاب حسنة" وفي كل مرة تقول لي "أثاتك في رزم من المأكل أنك ستغيرين العتبة وتنتقلين إلى منزل أو شقة خاصة بك بعبارة إن شاء الله..." * * الزواج.. ثم الزواج .. اللعب على الوتر الحساس * استجمعت المشعوذة أوراقها لتوزعها مرة ثانية، وانتقلت من الجانب المادي في حياتي إلى الجانب الشخصي والمعنوي لها، فقد أجابتني بقولها "هذا الرجل الأسمر خطيبك أو زوجك فإنه لا يصلح لك، ومن باب النصيحة ابتعدي عنه لأنه وكما يبدو لها في الأوراق ضعيف الشخصية ولا يليق بك"، خاصة وأني أتمتع بقوة شخصية لا تضاهيها شخصية، وفي المقابل عبرت عن وجود شاب متزوج يبكي ليل ونهار حسرة علي، ويتمنى لو أرضى وأقبل به كزوجة ثانية له لكنني لا أبالي به، وفي الأخير بشرتني بعيون مبتسمة أنه فرح كبير على ثلاثة أوقات(فترات). * هاته المشعوذة ونحن وسط الجلسة رن هاتفها فردت السيدة وإذا بها تنصح الزبونة على الهاتف وتقول لها تعالي لتأخذي بعض "البخور والجاوي" من أجل قضيتك، فاستغربت من الأمر عندها استنتجت أن "الحاجة" الشوافة تتعامل كذلك مع زبوناتها عن طريق الهاتف النقال وتنصحهم ببعض البخور والعقاقير والأعشاب كأدوية إن استدعى الأمر. * وللإشارة فقط فإنه وخلال حديثي مع المشعوذة كانت دائما تسألني أثناء تنبئها عن بعض الأشياء لتأخذها كطريق وكمسلك لتنبآتها، إلا أنني كنت جد فطنة لها وأضللها عن طريق إجاباتي الخاطئة لها لأكتشف على ما تستند عليه في تكهناتها. * وفي نهاية زيارتي لها زودتني "الحاجة" الشوافة ببطاقة زيارة مكتوب عليها اسمها ورقم هاتفها للاستعلام لتقديمها لمعارفي، وأنا على استعداد لخروجي من منزلها ألقيت نظرة خاطفة على منزلها، فعلى ما يبدو إن هاته السيدة ميسورة الحال وتعيش في ظروف جيدة ومريحة، فهي تملك منزلا فاخرا ومؤثثا أثاثا فاخرا وجديدا من الطراز العالي، كما تشهد حركة وحيوية كبيرتين من جراء استقبال الزبائن في وقت مبكر. * وعند الاستعلام والاستقصاء عن هاته المشعوذة، وحسب مصادر موثوقة، اتضح أن هاته الأخيرة تملك ثلاث شقق إضافة إلى شقتها التي تسكنها ولها مصنع للبلاستيك، فمن أين لها هذا كله يا ترى؟! الإجابة واضحة وصيرحة، هذا كله من عمليات النصب والاحتيال على الناس المساكين الذين راحوا ضحية هذا المقلب الهازل وأصحاب النفوس المريضة التي لا تضع الرحمة في قلوبهم وضعفاء الإيمان الذين ينسون الله سبحانه وتعالى ويضعون ثقتهم في أناس خرجوا من ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهم في حد ذاتهم مخلوقات الله الضعيفة، والدليل وارد وواضح، فكيف لم تنتبه لي كصحفية؟ لأنها كانت تراني مجرد عملة نقدية متنقلة وفقط... * المؤسف أنني عندما خرجت أطلب مرافقي في هذا الاستطلاع وجدت سيارة فاخرة جدا توصل امرأة في منتهى الحسن والجمال تخرج لتقرع باب "الحاجة" التي لم تحج بالتأكيد طالبة ما يجب أن نطلبه من الله فقط. * الوجهة الثانية كانت نحو شيخ يمتهن كتابة "الحروز" منذ نصف قرن، وهو أيضا "حاج" زار البقاع المقدسة في ثماني مناسبات، وعندما تحولت الرقية الشرعية إلى "موضة" صار يوهم زبائنه بأنه يقوم بالرقية الشرعية، حيث كتب على باب بيته "الرقية الشرعية" دخلنا مسكن هذا الذي يسمونه "الحاج" في بلدية تابعة لولاية قسنطينة، وصادفنا خلو المكان من الزائرين بسبب تقدم "الحاج" في العمر وتطور الشعوذة الاحتيالية، بينما ما زال هذا الشيخ الذي جاوز سنه السبعين في زمن الإنترنت والهاتف النقال يمارس كتابة الحروز بخطه الرديء جدا المليء بالخزعبلات، وقد كشف أحد سكان هذه البلدية الفقيرة بأنه كتب حرزا من أجل نجاح تجارته عام 1978 وحرزا آخر من أجل الخِلفة عام 1994 عند ذات الشيخ فوجد الحرزين متشابهين في خزعبلاتهما. * دخلنا المسكن المتواضع، كان الشيخ رفقة زوجته العجوز يعيشان من مصروف "الحروز" فقط ، لأن الشيخ عاش حياة البحبوحة في شبابه حيث كان أشهر من يكتب "الحروز" في منطقة شرق البلاد وكان يزوره المغتربون والمغتربات، وقالت لنا زوجته أنه كان يتلقى الدعوات إلى فرنسا لأجل "الشعوذة" وسبق له أن زار مدن ليون ومارسيليا وتولوز وغرونوبل وكتب هناك المئات من "الحروز" وتقاضى مبالغ هامة بالعملة الصعبة. * سألتنا العجوز وهي تقارب السعبين عن سبب زيارتنا، فقلنا لها إن كبار السن نصحونا ب "حرز" ينقل لنا بركات الشيخ، فتحمست وسألتنا عن تشخيص الداء حتى يقدم لنا زوجها الوصفة "الحرز" ثم كلمته بوشوشة في أذنه فأشار عليها نحو خزانة قديمة، أخذت حرزا هناك من قماش أخضر وقدمته إلينا وطالبت بمبلغ 300دج. * ورغم أن هذا الشيخ وزوجته يمارسان احتيالا من نوع الشرك بالله فإننا أشفقنا عليهما لأنه واضح أنهما يريدان سد الرمق أكثر من شيء آخر، وراح الشيخ يتمتم بكلمات اختلطت بسكرات "العمر المتقدم" وينصحنا بتعليق "الحرز" فوق باب "المتجر" الذي أوهمنا الشيخ بأننا نملكه ولا نحقق منه أي ربح منذ زمن طويل، ومن التمتمات اختطفنا »لا تترك أحدا يشاهد الحرز، إياك أن تقرأ ما هو مكتوب فيه، ستجني أرباحا ضخمة، لا تنسى باسم الله كلما وضعت قدمك في المحل، وإذا دخل زبونا ملتحيا استعذ بالله من الشيطان الرجيم، إياك وبيع الحرام، إياك والربى، إياك والتدخين داخل المحل" كانت بعض النصائح في الصميم، ولكنه يقسم بين الفينة والأخرى بأن المحل سيجني أرباحا غير مسبوقة، وقال لي إن نسيانه في حالة "الربح" ستكون كارثة على المحل وعلى صاحبه، وفي نهاية وصفته دخل في نصائح معاكسة حيث نصحنا بعدم الثقة في أقرب الناس إلينا بمن في ذلك الإخوة والوالدان وتكهن بأشياء مستقبلية رغم أنه كان يصر على أنه يمارس الرقية الشرعية بعد أن حمل كأس ماء راح يقرأ فيه بعض الكلمات الطلسمية وطلب منا شربه فرفضنا، ثم أخذنا "الحرز" وخرجنا وفي مخيلتنا الشيخ وزوجته العجوز أمضيا العمر كله في كتابة "الحروز" واللعب بمشاعر الناس المغفلين، يبيعان الأحلام والآمال للذين حرمهم الله من المال ومن البنين ومن النجاح، وخاصة من "العقل".. قرأنا الحرز فلم نفهم منه سوى "احرق" وكلمات مبهمة فهمنا من خلالها أنها مكتوبة منذ سنوات لأي زائر. * كان الجزائريون يعلمون أن الذهاب إلى "الشوّاف" أو استعمال "الأحجبة" هو شرك بالله وكلهم يحفظون عن ظهر قلب قوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا«. * كلهم يحفظون ذلك ومقتنعون بأن هذه الخرافات لن تقدم لهم شيئا، ومع ذلك يلجؤون إليها وسط هذا التأخر الاجتماعي والصحي الذي نعيشه، والفراغ القانوني الذي فرضه المجتمع الذي يمزج ما بين اسم مشعوذ ورجل صالح، وما بين الرقية الشرعية والشرك بالله. *