سيدي الرئيس أنا مريض أعاني من اضطرابات عقلية وعدة شهادات تثبت صحة ما أقول، هذه الكلمات أدلى بها شاب لا يتجاوز ال30 سنة، أمام هيئة محكمة حسين داي، عندما امتثل لسماعه في عدة قضايا إجرامية تنصبّ في مجملها حول الاعتداءات بالسلاح الأبيض، والسرقة بالعنف، وكان المتهم يلوح بيديه في الأعلى ينطق بكلام بذيء ليعطي انطباعا لدى الحاضرين يؤكد حالة جنونه، لكن القاضي كان هادئا لوجود خبرة عقلية تثبت ادعاءه الكاذب، ورغم هذا نفذ طلبه المتمثل في تعيين خبير آخر. * * * * القاضي الجزائري غير ملزم بالخبرة العقلية ويحق له إثباتها لدى خبير آخر * * حالة أخرى كان بطلها كهل اتهم بالتعدي على زوجته ووالديها وإشهار السلاح في وجههم، إذ أنه فأجأ المحامين والحاضرين في الجلسة، عندما قال بصريح العبارة، أنه كان ينوي قتلهم، رافضا أن يتأسس الدفاع في حقه، حيث علق عن حالته مستغربين من سجن مجنون كهذا يؤكد المحامون في هذا الصدد، على أن أغلب هذه التصرفات الصادرة من موكليهم أمام المحاكم مجرد ادعاءات للهروب من المسؤولية الجزائية، ولا يعني حسبهم إعفاء الخبراء المعتمدين من الخطأ بشكل قطعي، حيث أن شهادة بعضهم تؤكد وجود حالات جنون فعلا لمجانين أو لمتورطين في قضايا إجرامية تم محاكمتهم، وأعطى أحدهم مثال موكله وهو عسكري سابق كان معروفا باضطرابات عقلية، ولكنه يتواجد في السجن في تهمة عدم تسديد النفقة. * قضايا كثيرة ومعروفة ادعى المتورطون فيها الجنون، وخير مثال في ذلك مجنون طائرة العاصمة بشار الذي حاول تحويلها لإسبانيا. قاضي سابق في سلك العدالة، أوضح في تصريح للشروق، أن القضاة يملكون السلطة التقديرية لحالة المحاكم أمامهم ولكنهم رغم ذلك غير ملزمين بخبرة عقلية واحدة ويحق لهم إثبات صحتها لدى خبراء آخرين، كما يحق للخصوم طلب تعيين الخبرة العقلية. وبحسب قانون الإجراءات المدنية والإدارية الجديد، فإن المادة 126 من الفرع الأول في تعيين الخبرة، تنص، على أنه يجوز للقاضي من تلقاء نفسه أو يطلب أحد الخصوم تعيين خبيرا أو عدة خبراء من نفس التخصص أو من تخصصات مختلفة، علما أن القانون القديم في الفرع المدني كان موقف القاضي حياديا ولا يمكن له توجيه الأطراف، وكان الخصوم هم من يطلبون الخبرة العقلية. * * الخبرة العقلية ترتبط بتاريخ الجريمة، والجنون الناتج عن ارتكابها لا يعفي صاحبه من العقاب * * تعدد الخبراء ومنح الفرصة للخصوم وعرضهم للمرة الثالثة على الخبير المعتمد لدى العدالة أو خبير بمستشفى عمومي إذا تعذر وجود الأول، نقطة مهمة لقطع الشك باليقين في نظر العدالة. ويشير المحامون هنا إلى أن الإجراءات الجديدة حول التأكد من الحالة العقلية والصحية للسجناء والمحالون على المحاكمة، تخدم جميع الأطراف وتخفف العقاب أو ترفعه في حال ثبوت الإصابة، لكنهم ألقوا الضوء على إشكالية التقديرات النسبية للخبير العقلي، والتي تشخص سلامة أو جنون الخصم في القضية أو المتورط في الإجرام حسب تصرفاته، ويصبح الجنون المتقطع والاضطرابات العقلية المفاجئة من أصعب ما يواجه الخبير، حيث يأخذ بعين الاعتبار تاريخ ارتكاب الجريمة ويدرس بدقة الحالة النفسية التي كان فيها مرتكبها وهل كان في مرحلة الجنون والاضطراب العقلي. أما في حالة الجنون المطبق وهي أسهل تشخيصا من الأول، فإن بعض القانونيين يؤكدون أن مرتكبي الجرائم يتعرضون لمثل هذه الإصابة بعد القيام بها، وهذا لا يعني إعفاءهم من الجريمة، بل يتابعون العلاج في المصحات العقلية ويتابعون قضائيا وبشكل عادي بمجرد امتثالهم للعلاج وقد يتعذر عودة بعضهم للحالة العادية فيعفون تماما من العقاب. طرح أحد المحامين مشكلا واجهه هو شخصيا، يتمثل في إيداع مرتكبي الجرائم من طرف قضاة التحديد مباشرة بالمصحات العقلية بعد ثبوت إصابتهم بالجنون، حيث قال إن إجراءات استخراجه من المصحة يتطلب وقتا طويلا وهو ما حصل لموكليه والذي هو عسكري سابق هدد سنة 2007 سفارة أجنبية بتفجير قارورة غاز بوتان، وأودعه قاضي محكمة بئر مراد رايس مستشفى دريد حسين، ورغم امتثاله للشفاء بحسبه إلا أنه بقي بالمصحة إلى غاية ديسمبر الفارط بعد أن سعى بالطرق القانونية للسماح بإخراجه. الإصابة بالجنون بعد الجريمة يأخذ التحقيق فيها وقتا وإن كان المصاب في حالة مزرية فإن على الخصم أو الضحية المطالبة بإجراء عدة خبرات للتأكد من جنون مرتكبها، هذا ما يحدث في جرائم القتل. * في سياق متصل يرى أصحاب الجبة السوداء وبعض المحققين في الجرائم المرتكبة، أن أغلب المتورطين في قضايا النصب والاحتيال وانتحال هوية الغير والتزوير واستعماله والاختلاس مصابون بأمراض نفسية قريبة من الجنون، ناتجة في معظمها عن ما عرفته البلاد في العشرية السوداء، لكن العدالة الجزائرية جادة لقطع الشك باليقين في الخبرات العقلية. * * حركات بهلوانية لمتهمين لإقناع القاضي بالجنون! * * أمثلة كثيرة تلك التي تشهدها المحاكم، والتي يلبس المتهم فيها لباس الجنون لإقناع القاضي بالهروب من المسؤولية الجزائية. ففي محكمة الحراش قام أحد الشباب المتهمين بتحطيم ملك الغير وهو سور لفيلا، بالرد على التماسات وكيل الجمهورية ضده والقاضية بإدانته عامين حبسا، بطريقة تعطي انطباعا بالخبل والهلوسة، حيث قال معلقا على ذلك »...اطلب ضدي 10 سنوات ولا يهمني«، فردت عليه القاضية طلباتك فقال: »مئة سنة... لا... مليار سنة« وخرج تاركا الحضور في دهشة من تصرفاته وما باح به. * وفي نفس المحكمة تظاهر شيخ يناهز ال60 سنة بالهوس، مدعيا أنه لا يعي ما قام به ضد زوجته والتي طعنها وهي نائمة في فراشها لمجرد الشك فيها، بكين حادة أدخلها الإنعاش وأصابها بجروح بليغة على مستوى الكلية والبطن، حيث قال لمحامي دفاعه »لا أريد أن تدافع عني، لا أعرفك« حينما تفحص دفاعه ونظر إليه بعد أن التفت للقاعة مخاطبا إياه، »أنت لا تعرف شيئا، كنت أنوي قتل زوجتي«. * وكيل الجمهورية لم يبال بجنونه المتصنع والتمس ضده 10 سنوات سجنا نافذا عن الضرب والجرح العمدي ضد زوجته. * أحد الشباب المتورطين في قضايا المخدرات، نادى بأعلى صوته، عندما صدر الحكم ضده والقاضي بإدانته ب18 سنة، وبدأ يرقص ممتفوها بكلام فاحش، أحرج الحضور في جلسة محاكمة بمحكمة حسين داي الشهر الفارط، وقد ختم جنونه المفتعل بإهانة القاضي وسبّه بما لا يحمد عقباه. * هيئة المحكمة تابعته بعد ذلك بإهانة القاضي الجزائي وأدانته ب3 سنوات سجنا نافذا، حيث أكد المحامون أن افتعال الجنون أثناء الجلسة قد لا يتابع عليه المتهم ولكنه إذا وصل الأمر إلى إهانة هيئة عمومية سواء الشرطي أو القاضي ووكيل الجمهورية، فالأمر يؤخذ بجدية ولا يجني الفاعل بعدها إلا عقوبة أخرى.