انتهت الخرافة مثلما بدأت، في الفوضى و"التبهديلة" واللا مبالاة. وقد بدأت خرافة استثمار خمسين أو خمسة وثلاثين مليار دولار من طرف شركة "إعمار" الإماراتية في الفوضى، لما جاء أحد قادتها إلى الجزائر وبدأت الصحافة بنشر أرقام خيالية حول المشاريع الفرعونية التي قد تنطلق هذه المؤسسة في إنجازها، واعتبر البعض أن مشكل السكن في الجزائر قد انتهى، وأن كل الناس ستجد بيتا لائقا بعد سنوات قليلة، بمجرد أن تنهي شركة "إعمار" مشاريعها. * وبدأت القصة كذلك في جو من "التبهديلة" لما اكتشف الجزائريون أن شركة من الإمارات تستطيع أن تستثمر خمسين مليار دولار في مشروع واحد في الخارج، بينما تبقى أكبر الشركات الجزائرية وهي سوناطراك تعتبر أن استثمار مليار واحد في مشروع ما يعتبر إنجازا عظيما. * وسيطرت اللا مبالاة كذلك لما جاء القوم من الإمارات بأموالهم وكلامهم المغري عن الدولارات، حيث كان مسؤولو شركة "إعمار" يتكلمون عن ملايير الدولارات مثلما يتكلم السيد جمال ولد عباس عن الحافلات خلال زياراته... وتسارع المسؤولون الجزائريون لتقديمهم للوزراء وأصحاب القرار وأهل الحل والربط. ولم يفكر أحد أن مثل هذه المبالغ التي يتكلم عنها إطارات شركة "إعمار" لا يمكن دخولها الجزائر، لأن بلدا لم يتجاوز مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية سنويا لا يمكنه أن يبتلع مبلغ ثلاثين أو خمسين مليار دولار مرة واحدة. كما أن الإدارة الجزائرية وهياكلها الاقتصادية لا تعرف كيف تتعامل مع مؤسسات من هذا الحجم. * وانتهت المغامرة في الفوضى، حيث أن انسحاب شركة "إعمار" وغلق مكتبها في الجزائر تم في غموض شامل. واكتفت الشركة بالإعلان عن انسحابها في بلاغ جاء على شكل الاعتذار والحسرة، لكنه يحمل في نفس الوقت نوعا من الاتهام، لأن الإدارة الجزائرية لم تقدم ما كان منتظرا. * وتأتي مرحلة "التبهديلة" لما ستشرع شركة "إعمار" في إنجاز القصور والمدن السياحية في المغرب مثلا، ولما سنعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انسحابها من الجزائر، وهل قام بالأبحاث الضرورية لمعرفة نوايا الشركة الإماراتية. ولعل التبهديلة ستظهر كذلك لما نعرف هل تعامل الطرف الجزائري بجد مع هذا الملف، أم أن الإدارة الجزائرية تعاملت مع شركة من هذا الحجم مثلما تتعامل مع شاب بطال يقدم ملفا للوكالة الوطنية لتشغيل الشباب Ansej، مع العلم أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نفسه استقبل مدير شركة "إعمار". * أما اللامبالاة فإنها الصفة الثابتة في القرار الاقتصادي الجزائري، حيث أن لا أحد من المسؤولين برهن أنه يدرك جيدا معنى انسحاب شركة "إعمار"، وماذا سيكون أثرها على الشركات الأخرى في الخليج، خاصة وأن بلدان الخليج أصبحت من أبرز موارد الأموال منذ أن انتشرت الأزمة الاقتصادية في العالم. ولكن هل يمكن انتظار نتيجة أخرى لما نعرف أن رئيس الحكومة الأسبق، السيد عبد العزيز بلخادم، أعلن أن الاستثمارات الأجنبية بلغت حوالي عشرين مليار دولار سنة 2007 بينما كان الرقم الحقيقي مليارا واحدا فقط؟ * ومن جهة أخرى، فإن هذا التصرف تجاه شركة "إعمار" ليس منعزلا، إنما يشمل قطاعات كثيرة، من أهمها القطاع البنكي. وقد أكد خبراء في الميدان عن ظاهرتين يمكن أن تؤدي كل منهما إلى القضاء على وجود البنوك الأجنبية في البلاد. وقالت مصادر صحفية إن عشرة بنوك أجنبية تنتظر منذ سنوات اعتمادها من طرف البنك المركزي الجزائري، ولا أحد يعرف لماذا هذا التباطؤ وكيف هذا التعامل معه. * ومن جهة أخرى، فقد ذكر الخبير القاضي إحسان أن العدالة الجزائرية سلطت سلسلة من الغرامات المتتالية تبلغ مليارا ونصف المليار من الدولارات على البنوك الأجنبية الموجودة في الجزائر. وأدى تراكم الغرامات إلى ظهور جو من التوتر بين بنك الجزائر وهذه المؤسسات، التي من الممكن أن جزءا منها سيضطر إلى مغادرة الساحة إذا لم يتم اتفاق لإعادة النظر في العقوبة المسلطة عليها. * وإذا اجتمعت الظاهرتان، فإنهما تشيران إلى أن هناك سياسة جديدة تهدف إلى التخلص من البنوك الأجنبية، سواء بمنع بنوك جديدة أو بطرد البنوك الموجودة في الساحة. هل هي سياسة معتمدة حقا، أم هل أن هناك أخطاء متتالية ومتكررة؟ * والظاهر أن منع البنوك الأجنبية الجديدة يؤدي إلى نتيجة إيجابية واحدة، وهي منع البنوك الأجنبية من الاستيلاء على المال الجزائري. فالبنوك العمومية الجزائرية عاجزة عن التطور للقيام بالدور المنتظر منها. والبنوك الجزائرية الخاصة أصبحت شبه ممنوعة خاصة بعد قضية "خليفة". لذلك أصبحت البنوك الأجنبية مرشحة لقيادة الاقتصاد الجزائري. وأصبح بذلك منع البنوك الأجنبية عن وعي أو عن غير وعي يعمل لحماية الاقتصاد الجزائري... * إنه رمية من دون رامٍ، لأن بناء مشروع اقتصادي لا يتم عن طريق الجمود ومنع كل ما هو جديد وأجنبي، ولا يتم عن طريق الخطأ.