في ذكرى وفاته، نتساءل لماذا هذا التجاهل وهذا التهميش وهذا النسيان وهذا النكران لشخص بحجم الرئيس الجزائري هواري بومدين، الذي ضحى بالنفس والنفيس، والذي أعطى كل ما يملك والذي أسرَ قلوب الجزائريين ووهب حياته من أجل جزائر تنعم بالكرامة والرفاهية والطمأنينة والعدالة الاجتماعية. * فباستثاء المؤتمرات السنوية التي اعتاد الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية على تنظيمها في 27 ديسمبر من كل سنة وهذا اعتبارا من سنة 1990 أي بعد 12 سنة على وفاته، وهي مؤتمرات لم ترق إلى مكانة الرجل، بسبب ضعف الرعاية والإمكانات والوسائل والموازنات، فإننا نلاحظ تجاهلا يكاد يكون منهجيا ومنظما لشخص الرئيس. فمنذ وفاته لم تبذل السلطة الجزائرية أدنى جهد لإعطاء الرجل حقه من التاريخ والاعتراف بمسيرته النضالية والثورية والسياسية لما يزيد على عقدين من الزمن. * كان ذكيا في قراراته، جادا في كل مواقفه. ولم يكن يناور أو يسعى إلى كسب عواطف الشعب. ربما ارتكب بعض الأخطاء في التسيير، لكنه لم يكن هو المسؤول الوحيد عنها، وبعض الرجال لم يكونوا في مستوى الثقة التي وضعها فيهم. كان همه الوحيد هو تحرير البلاد من الاستعمار وبناء جزائر تنعم بالعدالة الاجتماعية والرفاهية. كان يحلم بمجتمع متكامل ومتحرر من التبعية والجهل. كان متفانيا في خدمة شعبه إلى درجة أنه نسي نفسه وعائلته وحقه في هذه الحياة". هذا ما قاله الرئيس الجزائري السابق، الشاذلي بن جديد في رفيق السلاح، المرحوم هواري بومدين. يتمنى الشعب الجزائري اليوم، وخاصة جيل الثورة مشاهدة فلم بل أفلام عن حياة الراحل بومدين ليتعرف عن قرب على إنجازاته وليتعرف شباب الجزائر اليوم على رئيس حكم البلاد بإخلاص وتفانٍ من أجل أن تعرف الاستقرار والطمأنينة والازدهار. * بومدين يستحق أن تنظم بشأنه مؤتمرات دولية تدعى إليها شخصيات عالمية لدراسة فكره ورؤيته في الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية. كان من حقه أن تخصص له برامج تلفزيونية تقدم للجزائر وللعالم إنجازات الرجل. مع الأسف الشديد، أقرب المقربين من الرئيس بومدين وأعز أصدقائه أداروا ظهرهم إليه وتجاهلوا حتى تداول اسمه في المجالس والأوساط السياسية والفكرية ووسائل الإعلام. * هناك زعماء وسياسيون أنصفهم التاريخ وآخرون همّشهم وقصّر في حقهم، وهناك من أعطاهم التاريخ أكثر مما يستحقوووفتح لهم أبوابه رغم أنهم لا يستحقون ذلك، بينما زعماء آخرون تنّكر لهم التاريخ وتجاهلتهم وسائل الإعلام والأوساط الفكرية والأكاديمية والعلمية، هذا هو التاريخ الذي يخدم السلطة ولا يخدم الحقيقة ولا ينصف صانعيه. * الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي حكم الجزائر من يونيو 1965م إلى ديسمبر 1978م يعتبر من أولئك الذين قدموا الكثير للجزائر ولشعبها، ومن هؤلاء الزعماء الذين تركوا بصماتهم في التاريخ سواء على مستوى دولهم أم قاراتهم أم على مستوى العالم العربي ودول العالم الثالث أم حركة عدم الانحياز أم الحركة الأفروآسيوية. * بومدين من الرؤساء أو الشخصيات السياسية التي هّمشها التاريخ محليا ودوليا ويمكننا القول أن الرئيس بومدين أحترمه العالم قبل أن تعطيه حقه وسائل إعلام بلاده والمسؤولون الجزائريون أنفسهم. فبعد وفاته مباشرة أصبح الرئيس بومدين من المحرمات والممنوعات في وسائل الإعلام الجزائرية وفي الملتقيات والندوات والمناسبات وكأنه لم يكن..! وهذه الظاهرة ليست غريبة على الجزائر، حيث أن زعماء مثل فرحات عباس، مصالي الحاج، عبان رمضان، العقيد عميروش وغيرهم كثر، لقوا نفس الجزاء قبل بومدين . ولم يصبح بومدين موضوع دراسات وأبحاث وندوات إلا في سنة 1990، ويرجع الفضل إلى الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية الذي لم يدخر جهدا في إنصاف الشخص، حيث أصبح ينظم مؤتمر المرحوم هواري بومدين سنويا وهذا احتفاءً بذكرى وفاته. * كان بومدين يؤمن بأن اقتصاد البلد لا يكتب له النجاح إذا لم يكن هناك تكامل بين قطاعاته المختلفة، وكان يؤمن أن الزراعة يجب أن تغدي الصناعة والعكس صحيح، وأن الصناعة الثقيلة تغدي الخفيفة، وكل هذه الآليات يجب أن تتم وفق خصائص كل منطقة من مناطق الجزائر التي تزخر أراضيها بخيرات ومواد أولية معتبرة. وكان بومدين يؤمن كذلك أن الدولة التي لا تستطيع تأمين غذائها لا تعتبر مستقلة. ففي عهد بومدين شهدت الجزائر شبكة من المصانع والمعامل انتشرت من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب احتراما لمبدأ التوازن الجهوي والتكامل الاقتصادي. * لم يكن الرئيس بومدين معصوما من الخطأ ولم ينجح كليا في جل مشاريعه وبرامجه، فكانت له إيجابياته وسلبياته ونقاط ضعفه وقوته، لكن الرجل كان ذا نية صادقة، طاهرة وصافية، هدفه كان خدمة البلد وليس استغلال المنصب لجمع الثروة. فبومدين عايش وحكم الجزائر في "موضة" الاشتراكية والحركات التحررية وحركة عدم الانحياز والحركة الأفروآسيوية، كما أنه لا يجب علينا أن ننسى أن بومدين درس في الأزهر في الخمسينيات، وعايش الضباط الأحرار في مصر وتدرب مع المناضلين المصريين، فكل هذه العوامل تركت بصماتها في فكر وأيديولوجية بومدين أيام حكمه للجزائر. * بومدين الرئيس الذي مات ولم يترك الملايين أو المليارات من الدولارات في حساباته البنكية الشخصية، مات من أجل الفلاح الجزائري، مات من أجل هؤلاء الذين حرمهم الاستعمار الفرنسي من العيش الشريف من التمدرس ومن الحياة الهنيئة. بومدين ذلك الرئيس الذي لم ينس كل من وقف إلى جانب الجزائر في محنتها ضد الاستعمار الفرنسي، فوقف إلوجانب الدول العربية ووقف بجانب الحركات التحررية في إفريقيا وآسيا، بومدين الذي ناضل من أجل الحق في القارات الثلاث لتحرير الشعوب سياسيا وثقافيا واقتصاديا وأيديولوجيا. * بسبب الفقر والجهل والحرمان زنتهج الرئيس الراحل سياسة شنها على ثلاث جبهات: الزراعة، الصناعة والثقافة وسمى هذه الجبهات بالثورات الثلاث: فعلى المستوى الزراعي أممت الأراضي الفلاحية ووزعت من جديد على الفلاحين في إطار سياسة التسيير الذاتي، وهذا لمحاربة الإقطاعية ونظام "الخماسة" الذي كان سائدا في المجتمع الجزائري، وعلى المستوى الاقتصادي آمن الرئيس بومدين بمبدأ "الصناعات المصنّعة" والتركيز على الصناعات الثقيلة التي تغدي وتنمي الصناعات الخفيفة والصناعات التحويلية وباقي الصناعات الأخرى. أما فيما يتعلق بالجانب الثقافي فقد آمن الرئيس بومدين بمبدأ ديمقراطية التعليم، وهذا بتوفيره مجانا لجميع أبناء المجتمع من السنة الأولى إلى أعلى درجة علمية ممكنة، وكذا التركيز على أن ابن الفلاح بإمكانه التمدرس والتفوق والاستمتاع بمقعد في الجامعة وبمنحة إلى أعتق وأشهر الجامعات في العالم إذا كان من المتفوقين. كما كان يؤمن بثقافة جماهيرية شعبية ملتزمة تخدم الفقير والمسكين والمحروم والمظلوم.