* أحيت أخيرا(*) جمعية "مشعل الشهيد" مشكورة الذكرى ال50 لتأسيس "هيئة الأركان العامة"، بحضور آخر عضو فيها العقيد عزالدين (رابح زراري)، بعد رحيل رفاقه الثلاثة وهم العقيد هواري بومدين والرائدان علي منجلي وسليمان (أحمد ڤايد). * وكانت المناسبة فرصة للتذكير بهذا الحدث الذي مازالت الجزائر تعيش زمنه - أي امتداده التاريخي - إلى يومنا هذا.. * ومن المفيد التمهيد لتناول هذا الحدث المفصلي في مسيرة الثورة الجزائرية بالإجابة على سؤال يتبادر إلى الأذهان أول وهلة: ترى لماذا وجود هيئة أركان خارج الجزائر الميدان الرئيسي للكفاح المسلّح؟! * يمكن تفسير ذلك بثلاثة عوامل متشابكة هي: * 1- البحث عن أسلحة في البلدان المجاورة بداية، ثم جلب السلاح منها بعد تحرك الوفد الخارجي في هذا المجال.. فقد استدعى ذلك انتقال أعداد متزايدة من الولايات الداخلية، في إطار هذه المهمة الحيوية والخطيرة في آن واحد. * 2- وجود عناصر قيادية بالمناطق الحدودية الشرقية والغربية خاصة، يهمها استبقاء وحدات من جنود التسليح لأمنهم الشخصي أولا، ثم كأداة للنفوذ والسلطة إزاء نظرائهم بعد ذلك. * 3- قيام العدو الفرنسي بمحاولة غلق الحدود الشمالية شرقا وغربا، بخطوط دفاعية منيعة اشتهرت »بخطوط موريس وشال«، والتي أقيمت ما بين ربيع 1956 وربيع 1959. ما جعل أعدادا هامة من الجنود تصطدم بهذا الحاجز الدفاعي، في طريق العودة إلى مواقعها بالولايات فتبقى مكرهة بالمناطق الحدودية.. * هذه العوامل الثلاثة تشكل معا سببا رئيسيا لظاهرة »جيش الحدود« الذي استوجب تأسيس "هيئة الأركان العامة" في يناير 1960 بعد محاولتين سابقتين: "قيادة العمليات العسكرية" في أبريل 1958، و"قيادتي أركان الشرق والغرب" في خريف نفس السنة. * ومن المفيد أن نقف باختصار عند ملابسات تأسيس هذه الهيئة بقرار من المجلس الوطني للثورة الجزائرية: * - الحقيقة الأولى في هذا الصدد تكمن في خلفية إبعاد بلقاسم كريم عن وزارة الدفاع، خوفا من أن يكتسب من موقعه على رأسها تفوّقا حاسما على حساب منافسيه الأقربين بوالصوف وبن طبال، لاسيما أنه كان آخر القادة التاريخيين الستة في الميدان(1). * ولم يكن يخفي طموحه للظفر بمنصب رئيس الحكومة المؤقتة استنادا إلى هذا السبق التاريخي بالذات. * وتم »تعويض« وزارة الدفاع بهيئة صورية باسم »اللجنة الوزارية للحرب«، تضم ما أصبح يعرف »بالثلاثي القوي« أو »الباءات الثلاثة«. أي كريم ومنافسيْه. * - الحقيقة الثانية، أن كريم لم يُبعد فقط من وزارة الدفاع - بعد أن عيّن وزيرا للخارجية - بل فقد كذلك منصب قائد الأركان الذي عيّن به العقيد هواري بومدين مرشح بوالصوف وبن طبال، على حساب مرشحه العقيد السعيد محمدي الذي تم استرضاؤه بمنصب وزير دولة في الحكومة المؤقتة الثانية. * - الحقيقة الثالثة ذكّر بها العقيد عزالدين بالمناسبة، وهي منح قائد الأركان الجديد صلاحيات واسعة، بموجب منشور صدر في 31 يناير 1960، مذيلا بتوقيع رئيس الحكومة فرحات عباس والأعضاء الثلاثة في "اللجنة الوزارية للحرب".. * هذه الصلاحيات الواسعة جعلت العقيد هواري بومدين ومساعديه ينفردون بجيش الحدود ويجعلون منه أداة للنفوذ والسلطة، ظهرت عشية استقلال الجزائر - بعد سنتين - تحت عنوان "المؤسسة المنظمة الوحيدة" لتستحوذ على مقاليد الحكم، بعد تحييد منافسيها - الضعفاء - سواء من داخل الحكومة المؤقتة أو بالولايات. * وتعني الإشارة إلى استمرار "زمن هيئة الأركان العامة"، أن الجزائر ماتزال عمليا بعد 50 سنة في عهد "المؤسسة المنظمة الوحيدة".. * في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، برزت هذه المؤسسة بفضل برنامج واضح - وبمساعدة ذراعيها الإداري والسياسي - في صورة "محرك الانبعاث الوطني".. وحمل هذا البرنامج بدون جدال اختيارات سليمة، وحقق مكاسب لا ينكرها إلا جاحد، بوّأت الجزائر في فترة قصيرة مكانة تحسد عليها بين الأمم. * لكن بعد رحيل بومدين تعطل "محرك الانبعاث الوطني" فجأة، تاركا المجال إلى ما يمكن اعتباره "نقيض البرنامج الأول". ويمكن القول أن "البرنامج النقيض" متواصل، بدليل التراجع عن عطلة الخميس والجمعة في أوت الماضي بعد تمام 33 سنة! * ويمكن القول، أن تعطيل عملية تصنيع البلاد تشكل واحدة من أخطر نكسات البرنامج الأول، وأكبر مآسي ما بعد بومدين في نفس الوقت، لما يحمل في طياته من آفاق مزعجة على مختلف الأصعدة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية.. * وكل أملنا أن ينتهي عهد "البرنامج النقيض" قريبا، ليفسح المجال أمام بروز محصلة نرجو أن تحمل معها آفاقا أسعد لبلادنا وشعبنا؛ آفاقا يستعيد "محرك الانبعاث الوطني" في ظلها دوره وفعاليته في أحسن الآجال.. * * * الأربعاء 20 يناير 2010. * (1) بعد استشهاد ديدوش وبن بولعيد وبن مهيدي، وأسر بيطاط وبوضياف. Editions Apic, 2005, Alger,P 88.