أذكر: كان ذلك في مدينة وجدة الحدودية المغربية. كنت مدعوا للمشاركة في الملتقى الدولي للآداب والثقافة الشعبية، لم أكن أعلم بأن الكاتب والروائي مولود معمري مدعو أيضا إلى هذا الملتقى العلمي الذي تنظمه جامعة وجدة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية. أشغال الملتقى كانت تدور حول تجليات أشكال الثقافة الشعبية المغاربية. كان ذلك بتاريخ 23 و24 فبراير 1989 مساء يوم 22 فبراير انطلقت على متن سيارتي الخاصة، من مدينة وهران، في اتجاه مدينة وجدة، كان يرافقني في هذه الرحلة الصديق الإعلامي والكاتب بلقاسم بن عبد الله. أذكر وصلنا الحدود الجزائرية المغربية، وقد خيم الليل. لم يطل بنا الانتظار في نقطة العبور المسماة زوج بغال القريبة من قرية العقيد لطفي الاشتراكية، التي دشنها الرئيس هواري بومدين في بداية السبعينات. في الجهة الأخرى من الحدود على التراب المغربي، كان رئيس جامعة وجدة في انتظاري. ودخلنا مدينة وجدة ليلا، وجدة التي كان قد سبق لي أن زرتها منذ سنوات، ها هي المدينة قد تغيرت كثيرا، أحمل لها في ذاكرتي صورة قرية كبيرة، ها هي أضحت مدينة بجامعة وبمطار اسمه مطار أنكاد الدولي، الناس في هذه المدينة لا يتحدثون سوى عن التهريب بين البلدين الجارين، ويتحدثون أيضا، كما يتحدث الجزائريون، عن حلم مثالي اسمه: المغرب العربي الموحد. أذكر، في اليوم الأول للملتقى، تحدث العديد من الباحثين والأدباء المغاربة والعرب والأوروبيين، إلا أن مداخلة الأديب والأنتروبولوجي مولود معمري كانت أكثر الأوراق التي أثارت النقاش وردود الأفعال الفكرية والثقافية وحتى السياسية. كان الاحتفاء بمولود معمري كبيرا مما جعل الجميع ينسى الجميع، والجميع يهتم بهذه الشخصية الثقافية والإبداعية والعلمية السجالية والشُجاعة. كانت المرة الأولى التي التقي فيها بمولود معمري، وهكذا وجدته: رجلا ستينيا بقامة متوسطة، يميل إلى النحافة، شعره أبيض كقطعة ثلج تتوج رأسه، شعر مصفوف نحو الأعلى، هادئا لا يتكلم إلا إذا طلب منه ذلك، أو طلب منه أن يجيب إذا سئل، خجولا لا يرفع نظره إلا ليعرف بعض ملامح محدثه، احتراما. قرأت لمولود معمري رواياته جميعها، وقدمت عليها دراسات صدرت في كتابي حول "الأنتلجانسيا"، أدهشتني عينه الإبداعية التي لا تترك صغيرة أو كبيرة إلا ورسمتها، وأذهلتني أيضا بساطة الكتابة الروائية لديه، فهو روائي بسيط إلا أن قوته وعبقريته تكمنان في هذه البساطة الفريدة. منذ أن نشر روايته الربوة المنسية سنة 55 التي قرأها طه حسين وأشاد بها، وقرأها مصطفى الأشرف ولم تعجبه فهاجمها على تأويلات أيديولوجية ضيقة، ظل مولود معمري المثقف الإشكالي. في حضرة مولود معمري، ها آنذا أستعيد بعض ملامح شخصيات رواياته فأجد في بعض من تفاصيلها كثيرا من ملامحه. استمعت إليه ولم أجد في أفكاره ولا في طريقة حواراته كثيرا أو قليلا من تلك الصورة المغرضة التي طالما سوقها وروج لها الإعلام المتحجر في بلادنا، آنذاك، لم أجد فيه المثقف المتعصب ولا الروائي الأيديولوجي الذي لا يولي اهتماما للجمال. كان يتحدث بشعرية عالية عن شعر وموسيقى أهل الليل، وعن ثقافة الطوارق وعمقها الفلسفي. كان يستعيد بنوع من الإعجاب والدهشة والدقة تجربة ومسيرة الملكة والقائدة تين هينان التي كان معجبا بها كثيرا كثيرا. لأول مرة، وعلى لسان مولود معمري ومنه، أسمع عن آلة موسيقية نادرة اسمها ليمزاد، لها خصائص موسيقية، ولها علاقة عضوية بالمرأة التارقية وبالشعر الشعبي. لأول مرة أسمع بآلة موسيقية تعزف عليها النساء فقط، كان حديث مولود معمري في تلك الجلسة، خارج جلسات أعمال الملتقى، حديث العلماء الذين يصرفون عمرهم بحثا عن شيء ضاع في الرمال، رمال الأزمنة ورمال صمت الصحراء. وأذكر.. نظمت إذاعة وجدة الجهوية، في اليوم الثاني من أيام الملتقى، لقاء إذاعيا، بث مباشرة من أستوديو المحطة، دعي إليه مولود معمري، وحظيت بدعوة المشاركة في هذا اللقاء الإذاعي المباشر. تحدث مولود معمري عن تجربته الروائية، عن بساطته في الكتابة، عن حبه لفلسفة البساطة، ثم أفاض في الحديث عن بحوثه في الثقافة الشعبية، عن الشاعر محند أو محند، كان حديثه باللغة الفرنسية بسيطا وعميقا وهادئا، وقد تشرفت وبطلب من المذيع الذي لم يكن يحسن الفرنسية، بأن ترجمت إلى اللغة العربية هذا الحديث المباشر. خرجنا من دار الإذاعة الجهوية بوجدة ، وقد شعرت بجسور علاقة ود كبير قد بدأت تتكون بيني وبين الكاتب مولود معمري. وانتهت أشغال الملتقى. وأذكر.. فطور الصباح الأخير.. كان يوم العودة، صباحا تناولنا حول طاولة واحدة فطور الصباح في باحة الفندق الذي أقمنا فيه. كنت أريد أن أعرف منه أشياء أخرى: حدثني عن ذكرياته سنوات إقامته في المغرب، عن علاقته بالفيلسوف والأديب المغربي عزيز الحبابي، وكيف أنهما فكرا لأول مرة أمام فنجان قهوة بإحدى مقاهي فاس، في تأسيس اتحاد كتاب المغرب العربي، كان ذلك في نهاية الخمسينات. وهما اللذان مثلا الأساس الأول لنواة مكتب هذا التنظيم الأدبي، وقد دعيا إلى إنشاء مجلة أدبية خاصة بهذا الاتحاد اتفقا على إطلاق اسم "آفاق" عليها. ولحد الآن مازالت مجلة اتحاد كتاب المغرب الأقصى تحمل هذا العنوان، الذي هو في الحقيقة اسم لمشروع مجلة اتحاد كتاب المغرب العربي. وعلى فطور ذلك الصباح الأخير، حدثني مولود معمري عن تصوراته لمستقبل الثقافة واللغة الأمازيغيتين في الجزائر وفي بلدان المغرب العربي، كان متفائلا بانتصار لغة الشعوب، قال لي: "لا يمكن لأي نظام أن يقطع لسان الأطفال الذين يشربون لغة الأم مع حليب الثديين الطاهرين. إن اللغة الأمازيغية سيكون لها شأن كبير حين تصبح الجزائر كبيرة في الديمقراطية والنضج السياسي" على قهوة ذاك الفطور، حدثني أيضا عن منطقة هنين وبني سنوس بمنطقة تلمسان، أعتقد وحسب ما فهمت منه أنه كان يعد عنها دراسة أنتروبولوجية وتاريحية ولغوية. لست أدري إن عثر بعد رحيله في وثائقه ومخطوطاته على شيء من هذا البحث؟ قبل أن نفترق، عرضت عليه فكرة تسجيل حصة معه في البرنامج الذي كنت أعده آنذاك للتلفزة الجزائرية بعنوان "أقواس"، قبل دعوتي وسجل لي رقم هاتفه على ورق مقوى، أذكر ذلك جيدا، وتواعدنا على أن نلتقي في العاصمة في الأسبوع الموالي. قال لي: "سأعود إلى الجزائر .سأقضي ليلة في تلمسان وفي اليوم التالي أرجع إلى العاصمة". أذكر أنه هو الآخر جاء إلى الملتقى على متن سيارته الخاصة، كان يقودها بنفسه، كانت سيارة من نوع بيجو 205، فيما أذكر. و افترقنا، ذهبت أنا صحبة الصديق بلقاسم بن عبد الله إلى مدينة الناظور، حيث قضينا ليلة هناك، وفي اليوم التالي عدنا إلى وهران. كان الطريق ممتعا. وصلت وهران، أنزلت بلقاسم بن عبد الله في حي الزيتون حيث كان يسكن، بمدخل المدينة، ثم واصلت طريقي إلى شارع ألفريد دو موسيه، وسط المدينة، حيث بيت أهل زوجتي ربيعة جلطي. وإذ دخلت الصالون، كانت ساعة موعد نشرة الأخبار وإذا المذيعة تبدأ النشرة بقراءة خبر تعلن فيه وفاة الكاتب الجزائري الكبير مولود معمري في حادث سيارة بضواحي عين الدفلى. نظرت إلى ربيعة ثم إلى لينا طفلتنا، دارت الأرض من تحت قدمي. ثم بكيت. كنت عند وعدي، وفاء لمولود معمري، هذا المثقف الاستثنائي والمختلف، فقد أنجزت حصة تليفزيونية عنه، في ظروف أمنية كانت صعبة للغاية، فقد انتقلت إلى قرية بني يني، ووقفت على قبره، وتحدثت إلى أصدقائه ومجايليه، وجمعت في هذه الحصة للحديث عنه كثيرا من محبيه وأصدقائه، على رأسهم الكاتب والباحث عبد السلام عبد النور، وبعض الممثلات والممثلين الذين أدووا أدوارا في أول فيلم جزائري باللغة الأمازيغية مقتبس من روايته "الربوة المنسية" من إخراج عبد الرحمن بوقرموح. اليوم، ها هي تمضي 21 سنة على وفاة الروائي مولود معمري بحادث سيارة، وتمضي خمسون سنة على وفاة ألبير كامو، الذي كان على خلاف معه حول مفاهيم الحرية والاستقلال والأم.. ها هي تمضي السنوات، فماذا يا ترى قدمنا لكاتب كبير بحجم مولود معمري؟ ربع قرن أو يكاد يمر وها نحن نتساءل: أين ذهبت مكتبة مولود معمري الشخصية يا ترى؟ لماذا لا تعمل دولتنا من خلال وزارتي الثقافة والسياحة على تحويل منزل هذا الكاتب الكبير، كما هو الأمر في كل بلدان الدنيا، تحويله إلى متحف بحماية قانونية؟ متأكد أنا أنه سيكون محجا لكثير من عشاق ودارسي مولود معمري الموزعين في أركان الأرض الأربعة. سلام على روحك الطاهرة يا دا المولود..!