جانبان مهمان في كل حركية اقتصادية للمجتمع والدولة، هما التقشف والاستثمار، أما التقشف فهو صيغة من صيغ الاستغناء عن الكماليان وتقليص الحاجات إلى حدودها الدنيا، وأما الاستثمار فهو الحركية الدائمة في توسيع حركة المكاسب والتضييق على المغارم والخسائر في جميع المجالات، والحاجة إلى استحضارهما معا لازمة من لوازم المجتمعات الناهضة، لا سيما في الأزمات التي تمر بها المجتمعات في حياتها. وروح الاستثمار ليس مصطلحا منفصلا عن الجانبين المذكورين، وإنما هو خلاصة لما يكون عليه المجتمع الناهض ومؤسساته..، وهي أن روح هذا المجتمع ومؤسساته وسلوكاته وحركاته وسكناته تسكنها ثقافة "المتقشف المستثمر"، بحيث لا يتسلل إليه الإسراف والتبذير مثلا ولا يحدث بهما نفسه، فضلا عن أن يقع في أزمة. ولذلك نرى أن المجتمعات التي تستصحب هذه الروح لا تصاب بالأزمات وإذا أصيبت فإنها سرعان ما تنهض من جديد وكأنها لم تمر بأزمة أو أزمات، كما هو الحال في المانيا التي دخلت حربين عالميتين 1914و1939، حطمت فيهما على آخرها، ولكنها سرعان ما نهضت، وهي إلى اليوم تصنع الحدث في العالم. ففي بلادنا –الجزائر- مثلا أول ما شرعت فيه الحكومة لمواجهة الأزمة المالية التي تمر بها اليوم البلاد بعد انخفاض سعر البترول، هو تقليص النفقات العمومية في بعض القطاعات إلى 40 و50 بالمائة، من الميزانيات المعهودة، وإلى جانب هذا الإجراء تعطيل بعض المشاريع الاستثمارية والخدمات الاجتماعية، وكل ذلك عرض على أنه داخل في سياسة التقشف..، فهل هذا هو مفهوم التقشف حقيقة؟ ومن ثم هل هذا هو الحل المطلوب للتغلب على المحنة؟ وإذا سلمنا جدلا بتقليص النفقات باعتبارها تقشفا، هل توقيف مشاريع استثمارية من التقشف؟ فضلا عن أن الحديث عن تقليص نفقات عمومية بهذه النسبة المرعبة، لا يعني إلا شيئين إثنين، هما: أن النفقات العمومية كان فيها إسراف كبير، وهذا عيب كان ينبغي الانتباه إليه قبل اليوم، وإما ان صاحب القرار يبحث عن انفجار الاجتماعي..، لا قدر الله، وفي كلتا الحالتين على السلطة أن تراجع نفسها في الموضوع. من المفروض أن التقشف يبدأ بالقضاء على الفساد والتبذير أولا ثم بترشيد الاستهلاك، وبتوجيه النفقات واستثمار المتاح من العلوم والتكنولوجيا في ذلك، مثلما فعلت وزارة التعليم العالي التي قلصت الكثير من النفقات، ووفرت الكثير من المال الذي كان يصرف هباء...، وذلك عندما فرضت استعمال تكنولوجيا الاتصال –الأنترنت- في التسجيل والتحويل، من غير أن تتعطل أي خدمة من الخدمات المفترضة، وهذا من غير أن نتكلم عن ملفات الفساد التي تتحدث عنها وسائل الإعلام والتي تعد بآلاف الملايير، لو عولجت بما يقتضيه الحال بالتحقيق والإحالة على القضاء وتصفية الكثير من الملفات التي شرع في دراسة بعضها، وسكت عن بعضها، ولا يثر بعضها. إن إدراج ملفات الفساد في عملية التقشف، سوف يوفر الكثير من المال العام المهدور هنا وهناك. أذكر يوما ان عبد الحميد الإبراهيمي سئل عن سر قنبلة 26 مليار، قال ببساطة كنت مسؤولا وأتابع أسعار البورصة في العالم في المواد الاستهلاكية، وأقارنها بأسعار الفواتير التي نستورد بها المواد الغذائية، فلاحطت فارقا كبيرا.. بين السعر الذي يشتري به كل العالم، والسعر الذي تستري به الجزائر.. أي أن مسؤولين تواطؤوا مع الموردين لنا واتفقوا على رفق السعر.... ثم إن التقشف وتقليص النفقات العمومية لا ينبغي أن يكون بمستوى واحد في جميع المجالات؛ لأن مجالات الخدمة العمومية متفاوتة في خدمة المجتمع... فنفقات على حضائر السيارات في القطاع العمومي مثلا، ليست كالنفقات على القطاع الإعلام..؛ لأن استعمال 60 سيارة مثلا بدل 100 سيارة، قد يفي بالغرض المطلوب، وإذا لم يف لا يعطل الخدمة، أما الإنفاق على الإعلام فالعكس هو الصحيح، ان تضاعف النفقات عليه؛ لأنه يساهم في صناعة كيفية التغلب على المحنة.. فالتلفزيون العمومي مثلا، من المفروض انه شرع في برامج قوية في التوعية بخطورة الوضع والترويج لأساليب التقشف والاقتصاد والكشف عن مواطن الخلل إن كانت. أما تعطيل المشاريع الاستثمارية، فتلك كبيرة في حق البلاد، إذ المفروض عندما تصاب المجتمعات بالأزمات المالية والاقتصادية، فإن أول ملف يفتح هو الاستثمار وكيفية تنشيط آلياته، وذلك بتشجيع المستثمرين، بالقروض وتنشيط الاستيراد والتصدير والتخفيضات الضريبية.. وتحرير السوق من قبضة أصحاب النفوذ..إلخ. فعندما يقرر وزير التجارة العودة إلى استيراد السيارات القديمة مثلا، لا ينبغي أن يكون النقاش نستورد أو لا نستورد؛ لأن ذلك نقاش خارج الخريطة الاسشتثمارية الوطنية، وإنما ينبغي أن نناقش الجدوى الاقتصادية لهذا الفعل..، ماذا يستفيد المواطن من هذا الإجراء، وعندما نصل إلى نتيجة أن السيارة القديمة التي نستوردها من الغرب وهي مطابقة للمعايير الصحيحة، أفضل من السيارة الجديدة التي تركب هنا وهناك بعيدا عن المعايير المعتبرة، أو نستوردها من أي جهة كانت وهي "مغايرة لمعايير السيارة الأوروبية"، يصبح النقاش مرتبط بموضوع زيد من الناس أو عمرو.. وذلك لا علاقة له بالاستثمار الوطني. أما تعطيل الخدمات الاجتماعية، فتبدأ من إلغاء التقاعد النسبي الذي هو حق لكل عامل دفع اشتراكه إلى صندوق الضمان الاجتماعي، لا سيما في بعض القطاعات المرهقة، والمصنفة ضمن الأشغال الشاقة مثل مصانع الحديد والتنقيب على البترول أو القطاعات التي تتطلب جهدا خاصا.. مثل التعليم وبعض فروع قطاع الأمن...إلخ. لا شك أن ما قامت به الحكومة هو الأسرع والأسهل، ولكن انعكاساته على المدى سوف تكون أصعب؛ لأن الأزمات في العادة تواجه بالحل الأصعب وليس الحل الأسهل، والصعوبات دائما كما يوق بن نبي رحمه الله علامات نمو.