نحن أمة عجزنا دائما أن نُخرج الحياة من موتانا العظماء، ولكننا في المقابل نجحنا أن نُخرج الموت من الأحياء، وإذا كان المثل الشعبي يقول "كي مات علقولو عرجون" فإننا صراحة لا نعلّق العراجين على عظمائنا سواء عاشوا أو ماتوا.. * صحيح أننا لا نعلم بدقة تاريخ ميلاد رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس، لأنه لم يكن من المحتفين بأعياد الميلاد في حياته، لكن هذا لا يشفع أن نجعل من تاريخ موته في السادسة عشر من شهر أفريل يوما للعلم، ولا نجعل تاريخ تأسيس جمعية العلماء مثلا.. بل إنه من المفروض إلغاء الاحتفال بيوم العلم مادام العلم هو رحلة العمر كله وليس يوما واحدا، ومادام ما قدمه الشيخ بن باديس هو حياة كاملة صالحة في كل زمان ومكان.. ويؤسفنا أن نجادل حول الصور البيومترية والخمار واللحية دون العودة إلى رائد نهضتنا الذي أضعنا مقومات النهضة منذ أن ألغينا وجوده في حياتنا، وصرنا نحتفل بيوم وفاته مرة في العام بتعليق صوره كما هو حاصل في المدينة التي أسس فيها جمعية العلماء المسلمين التي تحتفظ بصورة قماشية عملاقة تعلقها كلما اقترب موعد ذكرى رحيل العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس.. وإذا كنا نتقن وهذا من حقنا انتقاد المسؤولين الذين يتجاهلون عظيم الأمة في كثير من القضايا الهامة في مجتمعنا مثل قانون الأسرة وحتى قانون جوازات السفر وبطاقات الهوية البيومترية، لأن الشيخ بن باديس امتلك هذه البطاقات وجواز السفر ولحيته تُخفي نصف وجهه في قلب الحقبة الاستعمارية، وكانت مدرسته الخاصة بالتربية والتعليم تزدحم ببنات علم تحوّلن إلى أمهات الشهداء، إذا كان هذا حال السلطة التي لا تقدّر العلماء الذين بين أيديها الآن وتساعد بسلبيتها في دفعهم للهجرة فإن الشعب أيضا لا يهمّه ما قدمه بن باديس والرعيل الصالح من علماء الجمعية ويكاد لا يعرف أسماءهم، فما بالك أن يسير على نهجهم.. * اليابانيون في أول احتفال لهم بالذكرى الأولى لكارثة القنبلة الذرية التي أدمعت هيروشيما وأزالت طرقاتها السريعة عن الوجود في السادس من أوت 1946 عاهدوا أنفسهم بان يتحولوا إلى أمة عظمى وتطاولوا في البنيان وأبدعوا معماريا وهم الآن الذين يشقون لنا الطريق السريع لنربط ما بين وطننا الذي مساحته تزيد عن مساحة اليابان بأربعة أضعاف، ونعجز عن شق الطرقات الصالحة فيه، والكنديون التي غرقت باخرة في الثاني من مارس 1944 فهلك ما يزيد عن العشرين عالما وفنانا في سواحل كندا صارت تحتفل بقتلاها بالتقدم والتألق في جميع المجالات وهي التي ترسل لنا بواخر الغذاء الأساسية، وهي التي بنت لنا مقام الشهيد، والأمريكيون الذين يتذكرون جفاف 1980 الذي بخّر من خزينتهم حوالي أربعين مليار دولار صاروا يحتفلون بالمأساة باكتساح العالم في جميع المنتوجات الفلاحية وهي وجهتنا في كل رمضان لأجل كبح جماح الندرة والتهاب الأسعار من القمح إلى اللحوم المجمدة، والإيرانيون الذين احتفلوا في الثالث من جوان 1990 بالذكرى الأولى لرحيل قائد ثورتهم الإسلامية قرروا أن يتحدوا الولاياتالمتحدة والجهل وهم الآن عضو في النادي النووي، وحتى الإسرائيليين الذين احتفلوا في منتصف ماي 1949 بالذكرى الأولى لتأسيس دولتهم أعلنوها حربا على الجهل وهم يتفاخرون الآن بكونهم يعدّون 180 عالم من اليهود حصلوا على جائزة نوبل في مختلف المعارف، رغم أن تعدادهم لا يزيد عن 14 مليونا يتوزعون في سائر القارات.. أما نحن ففي كل عام نحتفل بما نصرّ على تسميته يوم العلم ولا شيء يوحي أننا نعطي للعلم أكثر من كلمات.. هي ذات الكلمات عن رجل عاش "ما كسب وما كسبنا معاه" ومات "وماخلى" أو كما يقول المثل عندنا.