هل نقف شاهدين على عظمة الأجداد.. وأيدينا تخلو من أي مجد؟ ننتمي إلى ماضينا.. ثم لا ندع هذا الماضي ينتمي إلينا! نقيم حاجزا يفصلنا عن عظمائنا.. ثم نعلق تمائم أمجادهم في المناسبات. لا شك.. أننا نملك رصيدا ضخما من التاريخ المجيد صنعه من سبقونا.. فهل يصرفنا ذلك عن إنجاز تاريخنا الخاص بذات الحجم والسمو. لو حضر أجدادنا إلى زماننا.. لبادروا إلى قذفنا بأحذيتهم.. ولأنكروا أن نكون منحدرين منهم.. فثمة ما يجعلنا متخلفين عنهم.. وهذه إحدى المآسي التي تطبع تاريخنا المعاصر. لكننا نمضي في حياتنا دون أن ننتبه إلى الهاوية التي تقف أمامنا. ألسنا سلالة.. تكاد تفقد وعيها.. نرفض جذورنا.. حيث يستحيل أن تنشأ لنا جذور غيرها.. ونحن نعلم أن الجذور لا تزرع.. بل تكمن في الأرض.. تنتظر من يغنيها بالحياة؟ ٌ لقد سررت بخبر إقامة تمثال نصفي للعلامة ''ابن خلدون'' في بجاية.. وإذ أؤكد (أن الإسلام يحرم إقامة التماثيل).. فإني أنظر إلى الأمر من زاوية خاصة.. فبجاية - التي عاشت حاضرة إسلامية مضيئة - يراد لها أن تنسى تاريخها.. وأن تلبس ثوبا مستعارا.. ليس من ماضيها.. ولا من تقاليدها ولا من مجدها. فالانتماء إلى''ابن خلدون'' الذي احتضنته بجاية.. كسب ثمين.. من النادر أن يتاح لمدينة.. أو أمة.. فأن تتذكر عظيما.. ابتكر منهجا في التاريخ، ووضع قواعد علم الاجتماع.. تجسيدا لشرف الانتساب إلى العظمة بكل معانيها. إن ''رمزية'' هذا الحدث قد تعني إعادة الاعتبار لعلم من أعلام الإنسانية.. واعترافا بتفوقه، وابتكاره.. فابن خلدون لم يأت من فراغ.. ولم ينشأ في فراغ.. بل كان ابنا للعالم الأول الذي تصدر به المسلمون الدنيا. ابن خلدون.. عقل كبير.. بل إنه من الاستثناء في التاريخ.. أن يولد عقل بهذا العمق والاتساع والاستيعاب.. وأن يمتد بفكره إلى المستقبل بصورة تدعو إلى الإكبار. ٌ إن بجاية التي تذكرت ''ابن خلدون'' في هذا الظرف بالذات - حيث دعاة الانسلاخ نشطون جدا -.. هي بصدد ترميم جسر التواصل مع تراثها وحضارتها.. في مواجهة معاول الهدم التي تحفر فيها منذ .1830 والإعلان عن ابن خلدون.. هو بمثابة رد على هجمة التشكيك في هوية هذه المنطقة، وأصالتها. فمن الذي يستطيع إغماض عينيه.. لينكر أن بلاد الزواوة - القبائل - عرضة لمحاولات السلخ.. التي تذكيها مسوخ انسلخت من جلدها.. وتسعى للانحشار في جلد مستورد. ٌ ثمة هوية جزائرية أصيلة وحقيقية يراد وأدها في أذهان ''الأجيال الجديدة ..ف بخلفية عرقية محضة.. عرب وأمازيغ! يا له من افتراء على التاريخ.. فمن ذا الذي يملك فحص جيناته ليقول في النهاية فأنا انحدر من هذه السلالة أو من تلك القبيلة ؟ أو إني أمتلك دما نقيا سرى إلي من أسلاف يمتدون إلى ما قبل التاريخ!!؟ إن تنقية الذاكرة المشوهة.. كاسترداد الذاكرة المسروقة.. كتنشيط الذاكرة المشلولة.. هي أشياء في غاية الأهمية. فالتشويه الذي طال تاريخنا.. بحيث حول فئة من الجزائريين إلى دعاة انفصال عن هذا التاريخ.. وإنكار أن يكون تاريخا للجزائريين جميعا.. ما انفك يوسع رقعته، ليلتهم مزيدا من القناعات المشوشة، والمضطربة. فرنسا سرقت منا كل شيء تقريبا.. بما في ذلك ذاكرتنا.. واغتصبت أرشيفنا.. حيث لا يزال مكدسا في أقبيتها.. ترفض الإفراج عنه.. فهل نقبل أن يبقى قطاع من هذه الذاكرة محبوسا وراء البحر؟ إن التخلي عن هذا الأرشيف جريمة منكرة.. وما يشكل إرثا مشتركا لكل الأجيال لا يسوغ لجيل عاجز ومشوش، أن يتصرف فيه بمقتضى ما يمليه عليه عجزه. ٌ هل نقرأ تاريخنا نحن الجزائريين؟ التاريخ الذي لم يكتب.. والتاريخ الذي يعلوه الغبار.. قد ينتهي ميتا.. فمن غير المعقول إذن أن ننسى من نكون..! استصحب اليهود تاريخهم ألفي عام في الشتات.. ثم أسسوا دولتهم على حساب أهل فلسطين.. مسلحين بالذاكرة المحشوة بالأساطير. الآخرون لا ينسون.. ويذكروننا دائما بأن تاريخهم غير قابل للتجريم.. وأسلافهم الذين نكلوا بنا مئة وثلاثون عاما أبطال لا يجوز الحط من شأنهم منهم.. فلماذا يراد تجريد أجيالنا الشابة من ماضيها.. أعني تاريخ أسلافها؟!! لقد نقلنا رفات الأمير عبد القادر من سوريا إلى الجزائر.. وأقمنا له قبرا هنا.. فهل يغني هذا عن إحياء مآثر هذا الرجل العظيم.. الذي ظلمناه أكثر من مرة. التعامل مع التاريخ لا يتسنى بأسلوب المهرجانات والمناسبات.. وهذه حقيقة يجب ألا تخفى علينا.. فهناك من يرقص باسم التاريخ. ٌ إن عودة الوعي عبر المعلم التذكاري لابن خلدون... يقابله طمس هذا الوعي بواسطة المهرجان الثقافي الأوروبي الذي تستصنيفه العاصمة في هذا الشهر.. ليتقلص مفهوم الثقافة لدى القائمين على المهرجان إلى حفلات موسيقية.. تبدأ فبالجاز'' وتنتهي ''بالبوب..ف. هذه هي الثقافة بمنظور من يختزل الحضارة في الغناء والرقص، حيث يطلب من الجزائريين أن يرقصوا أكثر.. ليتحضروا أكثر. لقد عاد ابن خلدون على استحياء.. تمثالا نصفيا.. فمتى يعود وعيا حيا يسري