كثيرة هي الأحداث التي مرت بها أمتنا، على طول تاريخها الجاهلي والإيماني، نقف اليوم أمام اثنين منها لجهة أفعال أبنائها البررة، المحزن فيهما أن كلا منهما يتعلّق بالموت، وهو نهاية كل حي، والجانب المفرح فيهما أنهما يشكلان في مجموعهما وجدان الأمة، ويحلّقان بها في عالم الروحيات.. نحن في أمس الحاجة إليهما بعد أن اعتلى كراسي الحكم في دولنا من كانوا مرفوضين نتيجة مواقف نابعة من لجوء الأمة إلى أحكام الشرع للخروج من أزماتها الكبرى، ومنبوذين لأن "قلوبهم غلف" لا تأخذهم بنا رأفة ولا يرقبون فينا إلاّ ولا ذمة.. كما نحن في حاجة لهما بعد أن أحلنا أصحاب القرار دار البوار، خصوصا بعد انتشار الإرهاب في كل مكان واحتلال العراق وإخراج من تبقّّى من الفلسطينيين من أرضهم * * الحدث الأول ذكرى رحيل العالم الفاضل عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهو الذي تركنا على قوله وقناعته محددين لمسار حركتنا في الحياة فنحن "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة"، قبل أن يطعن إخواننا في عروبتنا ويشككوا في تاريخنا... الرّجل الذي تغنّينا بشعره صغارا وعرفنا معنى مرجعيته وعلمه كبارا، وكان لنا مرجعا وملجأ كلما عمّ الظلم والظلام والجاهلية الحديثة.. المهم أن ابن باديس ترك لنا ما نعود إليه لإثبات الهوية والانتماء نصوصا تعمّر معنا مدى العمر، لذلك لا غرو حين تتوارث الأجيال أفكاره وتبني عليها سلّم النهضة، ويؤسس عليها مشروع الدولة الوطنية في الجزائر بالرّغم من الذين ادعوا الانتماء إليه وشكلوا أحزابا ولّوا الأدبار أمام زحف المال والسلطة، وهناك من شرّع النهب والسّلب، وبقيت قلّة بعيدة عن العمل الحزبي، لأنها ترى في انتمائها للدين بقراءة باديسية - إن جاز التعبير - تحقق البعد الإيماني ضمن فضاء التوحيد. * * الحدث الثاني هو ذكرى رحيل الفنان عبد الحليم حافظ، الذي تجاوبت معه القلوب عشقا وحبا ووطنية وثورة، قطعت معه مسافات الأمل، وتجاوزت معه سنوات الهزيمة، ورست معه هاتفة، مستبشرة على مرافئ النصر.. حتى غدت أغانيه تعبيرا عن مناسبات فردية أو اجتماعية أو وظنية أو قومية.. صحيح أن صوته وأغنيته كانت لقلوب النساء أقرب، لكن هل نجا الرجال أثناء حياته وبعد رحليه منها بتفاعل إيجابي، حققت للكثيرين قليلا أو كثيرا من التوازن النفسي. * * بعد رحليه رحلت مصر إلى الضفة الأخرى، واختارت السلام مع العدو الإسرائيلي طريقا لاستعادة ما تبقى من أرضها تحت الاحتلال، ولست هنا لمناقشة هذا الموضوع، إنما الذي يهمني هنا هو التذكير بأن العرب لم يقاطعوا عبد الحليم، لأنه مثّل وجدان أمّة تجمّع لها قي زمانه شروط العزة من صانع قرار قوي إلى أصحب كلمة صادقين إلى ملحنين قادرين إلى أصوات مؤثرة لأشباه رجال تتساقط سراويلهم قبل أن يقوموا من مقامهم.. ونحن حين نشتاق إليه اليوم فإن الحنين يأخذنا إلى فترة حكم فيها عبد الناصر مصر وحكم فيه بومدين الجزائر. * * وبالنسبة لي قد يبدو الأمر أكثر تأثرا فأنا أعتقد أنني عربي وعروبي، حتى النخاع، ولكنني عاشق متيم للجزائر، أحب كل شيء فيها الشجر والحجر والطير، ويهزني الشوق إلى أغنية رابح درياسة "خذ المفتاح وافتح دارك يا فلاح".. أغنية زمن الإنجازات، كما أحب الاستماع إلى أغاني خليفي أحمد وعبد القادر شاعو ودحمان الحراشي والهاشمي ڤروابي والفرڤاني وعيسى الجرموني وبقّار حدّه وعبد الله مناعي وإيدير، ولو بحثنا عن كل هؤلاء لوجدناهم جزءا من تاريخ الفن الجميل في الجزائر.. ألازلتم تذكرونهم في زمن الشاب خالد، ومامي وغيرهما؟! * * وأحب من الفنانين العرب عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش وفهد بلان وهيام يونس وفيروز وناظم الغزالي وعبد الوهاب الدكالي وغيرهم كثر، وعلى أصوات أولئك تشكل الوجدان العربي.. وهو ما نفتقده اليوم، خصوصا بعد أن تعّلق جيل الشباب بفناني عصره، وهو أمر طبيعي، لكن مشكلة هذا الجيل أنه في إطار العولمة يرى أن الأغنية العربية لا تحرّك وجدانه كما كناّ نحن في السابق، بل إنه يسخر من حالنا حين كنّا نقضي وقتا طويلا في الاستماع لأغنية واحدة، ويتأثر بأي أغنية أجنبية وتحرك وجدانه سواء أكانت إنجليزية أو إسبانية أو فرنسية أو حتى برتغالية وتهز مشاعره، وبناء عليه فإن الأغنية لديه لا توّرث، وهو بصراحة لا يرغب في أن يكون منتميا إلى جيل عبد الحليم ويفضّل عليه الشاب خالد بما في ذلك بعض من الشباب المصري. * * لا أحد منا مدرك لأهمية الزمن يود إقامة حظر على ذوق الجيل الجديد، لكن الخوف في أن يظل مرهونا لأكذوبة اسمها العولمة التي تعني باختصار سيادة الغرب في كل مجالات الحياة... لكن المشكلة ليست قائمة عنده فقط، فهو نتاج مرحلة كل ما فيها يكرّس الهزائم والتراجع، ونحن ندين لبعض شباب الجيل الحالي بمواقف نضالية تجلّت عند غزو أفغانستان والعراق والحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان وعلى غزة خصوصا من كان منهم يدندن منه بالقرآن. * * الجيل الحالي هو ابن مرحلة ترى نخبها أن الحل في تقليد الآخر حتى أنه لو دخل جحر ضب لاتبعته.. وحين تغدو الحكومات عاجزة عن جمع مواطنيها حول قضايا كبرى.. فمن الطبيعي أن يكون الشباب على الحال التي نرى.. شباب لا جامع له اليوم على مستوى الوجدان، حتى لو تذكرت قلةّ منا، ليس بيدها الأمر فكر عبد الحميد بن باديس أو عاشت للحظات مع أغاني عبد الحليم.. الجيل الجديد نموذجه الشاب خالد وأمثاله.. وهو جيل لا يودّ أن يكون أبناءه مثله. * * [email protected]