المرض سرق بسمة 50 ألف طفل جزائري و30٪ من أطفالنا مهددون بسبب السمنة السكري رابع أسباب الوفيات بالجزائر وانتشاره في تزايد مخيف "آسف.. ولدك ارتفعت عنده نسبة السكر في الدم.. لقد أصيب بالسكري..."، "بنكرياس رضيعتك توقف عن إنتاج الأنسولين.. إنه السكري"... خبر ينزل كالصاعقة على كل من يسمعه، فما بالك إن كان المعني أبا أراد لابنه الوحيد أن يصبح لاعب كرة مشهور أو أمّا بدأت تحلم منذ وضعت مولودتها قبل أشهر أن تراها أجمل عروس! لكنه القدر الذي لا مفر منه ولا حيلة لهؤلاء إلا تقبل المرض والتعايش معه حتى وإن كان المصاب طفلا لا يعي معنى المرض ولا كيفية مسايرته.. فأسماؤهم تضاف إلى قائمة أكثر من 50 ألف طفل جزائري مصاب بالمرض و200 طفل يصابون به يوميا عبر العالم، أي ما يعادل 70 ألف طفل كل عام. لطالما ارتبط اسم "السكري"، في أذهان الكثيرين، بكبار السن والأشخاص الذين يعانون الوزن الزائد أو البدانة. وكان خبر إصابة طفل أو رضيع بهذا المرض حالة شاذة. لكن لغة الأرقام بدأت ترسم صورة مخيفة لواقع هذا الداء الذي يعدّ ثاني مرض مزمن منتشر في الجزائر بعد ارتفاع الضغط الشرياني ورابع مسبب للوفيات، وتحذر من مستقبل قد يكون أكثر مأساوية إن لم يتم التحكم في الإصابة بالمرض والتكفل الحقيقي به وتصحيح نمط معيشي أضحى يميل إلى الخمول، خاصة عند هذه الشريحة التي ارتأينا هذه المرة تسليط الضوء عليها ومعايشة معاناتها، لأنها لا تعيش حياتها اليومية كبقية الأطفال، إذ تؤرقها عملية مراقبة نسبة السكر في الدم والمداومة على تناول الأدوية أو أخذ الحقن وتحقيق توازن بين الجهد البدني والغذاء، كما أنها تجد مقارنة بالمرضى البالغين صعوبة أكبر في تفهم المرض وتقبّله والحرص على تطبيق أسس علاج السكري الذي يعتبر، حسب الأخصائيين، من أكثر الأمراض المزمنة التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال في كل الأعمار، بما في ذلك الرضع والمواليد الجدد. ورغم ذلك، فإن هذا المرض عادة ما يتأخر تشخيصه عند هذه الفئة ولا يكتشف إلا عندما يبدأ الطفل في تسجيل معدلات عالية من نسبة السكر في الدم ويدخل المستشفى. أرقام مرعبة لمرض ينتشر كالنار في الهشيم كان من الصعب علينا أن نجد ما يرضي فضول الصحفي من أرقام قد تعكس واقع انتشار المرض في بلادنا، خصوصا عند الأطفال، والسبب أن الجزائر لا تزال، إلى حد بعيد، غير متحكمة في آليات الإحصاء الذي وإن قامت به المصالح المختصة، فعادة ما يكون مرة كل عدة سنوات، أو لا يمكن الاعتماد عليه لتشريح واقع جديد أو جزئي يخص عينة فقط. وما حصلنا عليه من إحصاءات نعتقد أنه لا يعكس بحق واقع المرض في بلانا، وهو ما يؤكده الخبراء أنفسهم، باعتبار أن فئة كبيرة من الذين يقطنون المناطق الداخلية والنائية لا يصرحون بالمرض، وعدد كبير من المرضى غير مؤمّنين، وبالتالي فهُم خارج دائرة الإحصاء، وهو ما يفسر التضارب في تحديد العدد الحقيقي للمصابين بالسكري في الجزائر، حيث قدّره رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث -فوريم-، البروفيسور خياطي، بحوالي 2 إلى 3 ملايين مصاب، متوقعا أن يقفز إلى 4 ملايين مصاب خلال العشر سنوات المقبلة، في حين قدره الديوان الوطني للإحصاء بأكثر من مليون شخص في فئة عمرية ما بين 20 و79 سنة يقدر عددها ب 14816828. أما بخصوص الأطفال الجزائريين المصابين بهذا المرض، فقد توقع البروفيسور خياطي أنه يتراوح بين 40 إلى 50 ألف حالة تخص النوع الأول. وحسب الدكتور رشيد مالك، من مصلحة الطب الداخلي بمستشفى سطيف، استنادا إلى أطلس السكري في طبعته الثالثة 2006 الذي تعده الفيدرالية الدولية للسكري، فإن نسبة انتشار السكري في الجزائر في كل 100 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 0 و14 سنة هو عموما 13.1 بالمئة، وتقدر ب 8.6 بالمئة في الجزائر، حسب المصدر ذاته الذي فصّل في تطور المرض بحسب 3 فئات عمرية، سجلت أعلى نسبة إصابة بالمرض عند الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 14 سنة ب 13.1 من العدد الإجمالي للمصابين، تليها فئة 5 إلى 9 سنوات بنسبة 9 بالمئة ثم فئة 0 إلى 4 سنوات ب3.9 بالمئة. وتزداد الإصابة عند الأطفال والمراهقين بالنوع الأول (عجز شديد في عمل خلايا البنكرياس، ينتج عنه نقص مطلق في إفراز الأنسولين) بنسبة 3 بالمئة سنويا وقد تصل إلى 5 بالمئة قبل سن التمدرس. وحسب التقديرات فإن 70 ألف طفل أقل من 15 سنة يصابون بالصنف الأول سنويا عبر العالم؛ أي ما يعادل حوالي 200 طفل يوميا. وحسب سجل مرضى السكري بقسنطينة، فإن معدل انتشار النوع الأول عند الأطفال أقل من 15 سنة هو 11,9 بالمئة لكل 100 ألف نسمة بين 1990 و2004 ووصل بوهران إلى 9,1 بالمئة في الفترة بين 97 و2002 بعد أن كانت في حدود 4.4 بالمئة بين 1979 و88. 85٪ من الأطفال المصابين بالنوع الثاني يعانون السمنة وفي دورة تكوينية حول مرض السكري خُصصت للصحفيين، أكد البروفيسور بلحاج محمد، من مستشفى وهران، أن الإصابة بالنوع الثاني (نقص جزئي في إفراز الأنسولين، أو عدم قدرة خلايا الجسم على استعمال الأنسولين بشكل صحيح مما يؤدي إلى تجمع كمية كبيرة من السكر في الدم) كان إلى زمن قريب حكرا على البالغين، خاصة الذين تفوق أعمارهم الأربعين، لكن نسبته تزداد في الوقت الراهن وبصفة مثيرة للقلق عند الأطفال والمراهقين، حيث من المتوقع أن تتضاعف نسبة الإصابة به عند الأطفال ب 50 بالمئة خلال ال 15 سنة المقبلة، وذلك بسبب وزنهم الزائد وكسلهم وعدم ممارستهم للنشاط البدني. وعزى البروفيسور خياطي جزءا من هذا الارتفاع إلى "تغيير النمط الغذائي الذي أصبح معظمه جاهزا وغنيا بالدهون وضعيفا بالألياف والخضر والفواكه، وغالبا ما يكون خارج المنزل وبغير انتظام، مما يولد البدانة التي بدأ شبحها يخيم على الطفولة في الجزائر". وتشير أرقام المنظمة الدولية للسكري إلى أن 85 بالمئة من الأطفال المصابين بالنوع 2 للسكري يعانون من الوزن الزائد أو السمنة أثناء التشخيص. وفي السياق ذاته، كشفت مؤخرا دراسة وطنية إحصائية شملت 7465 طفل من مختلف ولايات الوطن أن ما يفوق 30 بالمئة من أطفال الجزائر يعانون من أخطار السمنة التي مست الأطفال المتراوحة أعمارهم بين 6 إلى 7 سنوات بنسبة 37 بالمئة ومن 11 إلى 12 سنة بنسبة 29 بالمئة ومن 14 إلى 16 بنسبة 33 بالمئة. أولياء يرفضون تقبّل المرض.. أطفال يتساءلون ومراهقون يصلون حد الانتحار لم يكن من اليسير افتكاك شهادات من أفواه أطفال براعم عن مرض سيكبرون معه ويلازمهم في كل لحظة يعيشونها دون أن يدركوا ماهيته وحقيقته، ولا حتى من أوليائهم الذين لمسنا في أغلبهم عدم تقبل المرض أو الرغبة في عدم تصديق تلك الحقيقة.. وفي هذا السياق، تقول السيدة مليكة، أمّ لرضيعة أصابها المرض مؤخرا "لم أصدق أذنيّ عندما أخبرني الطبيب بأن ابنتي الوحيدة التي بدأت للتو تخطو أولى خطواتها قد أصيبت بهذا المرض اللعين.. إنها صدمة لم أقو على تحمّلها، وأود أن تكون كابوسا سيزول عما قريب.. لكنني سرعان ما أدرك أنها الحقيقة المُرّة عندما أراني آخذ شرائط قياس السكر في الدم لأتفقد نسبته عند ابنتي وعندما يحين موعد حقن ابنتي بالأنسولين.. صدقوني أنني أبكي في كل مرة أحقنها فيها وأراها تتألم وتبكي.. أحس أني أغرز الحقنة في قلبي.." نفس الأحاسيس عاشها السيد جمال، أستاذ جامعي، عندما سمع خبر إصابة ابنه ذي السبع سنوات بالسكري، "أول ما جال في خاطري عندما علمت بمرضه صورته وهو يطير فرحا عندما أشتري له كل مساء شوكولاطته المفضلة.. ورحت أبحث في تلك اللحظة عن حجة حتى أمنعها عنه أو على الأقل أقلل من شرائها.. وفعلا وجدت أنا ووالدته صعوبة كبيرة في إقناعه بمرضه وتلقينه المبادئ الصحية التي يجب أن يتبعها وكيف عليه أن يوازن في غذائه.. حتى أننا قررنا عدم جلب كل ما هو سكري إلى البيت، وأرغمنا إخوته على تفادي أكلها في المنزل.. لكن أكثر ما يحز في أنفسنا عجزنا عن التعليق عندما يسألنا ببراءة: لماذا أصدقائي يأكلون ما طاب لهم من حلويات وأنا لا؟ لماذا أنا مريض بالسكري وهم لا؟ صديقي نبيل ليس لديه إبر الأنسولين مثل التي عندي.. أظن أنه لا يزال صغيرا على فهم المرض وتقبله". أما نبيلة، 18 سنة، التي أصيبت بالمرض قبل سنتين فيبدو أنها تأقلمت الآن مع حياتها الجديدة، لكن بعد مد وجزر مع المرض ورحلة طويلة من العناد والتمرد كادت تنتهي بالانتحار، "لم أتقبل في البداية مرضي لأنني لمست في عائلتي وفي محيطي عدم تقبلهم له أيضا.. فكنت أرفض حقني بالأنسولين، وإن أخذت الحقنة فلا يكون ذلك إلا بعد معركة طويلة مع والديّ.. ومن شدة عنادي وتمردي كنت أخالف كل القواعد الصحية التي يجب أن يتبعها أي مريض بالسكري حتى لا يتعرض إلى تعقيدات لا تحمد عقباها.. مثل تقليم أظافري بمقص حاد مع أنه ممنوع علينا، وكنت أرفض ارتداء الأحذية الخاصة التي يشتريها والدي وأصر على ارتداء أحذية ضيقة وبكعب عال، كما كنت لا أبالي بغذائي فأكثر من تناول السكريات التي أشتريها خفية.. واستمر الحال كذلك إلى أن أفقت ذات يوم على سرير في المستشفى بعد محاولة انتحار فاشلة.. كدت أدفع حياتي ثمنا لعنادي وتمردي، لكنني الآن بدأت أتأقلم مع المرض بعد عدة جلسات مع طبيب نفسي وأدركت أن هذه أول خطوة لعيش حياة عادية". رئيس جمعية السكري بالعاصمة: "لا يوجد تكفل حقيقي بالجزائر والمدرسة الغائب الأكبر" وللتقرب أكثر من مشاكل هذه الشرائح، اتصلنا برئيس جمعية السكري بالعاصمة، فيصل أوحادة، الذي ركز على مشكل التكفل بهذه الشريحة في الجزائر، قائلا "كل حالة إصابة جديدة بالسكري في الدول الغربية يتم التكفل بها فورا ومن قبل فريق طبي متكامل، بعكس الجزائر التي لا يزال فيها التكفل غائبا رغم بعض الجهود التي يبذلها الأطباء في محاولة إفهام المريض وعائلته حقيقة المرض وكيفية التعامل معه، لكن ذلك غير كاف"، يقول المتحدث مضيفا "حتى المدرسة التي يقضي فيها الطفل المريض الوقت الأكبر لا تتكفل به في أغلب الأحيان، بل تزيد من تعقيد حالته، وأذكر على سبيل المثال حالة تلميذة مجتهدة وتحب الدراسة اضطرت إلى إعادة السنة لأنها لم تستطع إجراء بعض الامتحانات بسبب دخولها المستشفى في تلك الفترة، ورفض القائم على المدرسة إعادة الامتحانات لها فكانت النتيجة أنها لا تزال تعاني الآن من أزمة نفسية حادة. كما أذكر حادثة أثرت فيّ كثيرا لتلميذة اضطر والداها إلى وضعها في مدرسة أخرى بالعاصمة بعدما رفضت مديرة مدرستها السابقة أن تساعدها معلمتها في قياس نسبة السكر في الدم، ورفضت أيضا أن تأتي والدتها لفعل ذلك، فما كان لوالديها إلى نقلها في مدرسة أخرى.. فالمدرسة هي الغائب الأكبر في عملية التكفل بهؤلاء الأطفال". المتحدث طالب بأن يكون في كل مدرسة طبيب وممرض وأخصائي نفسي يعملون طوال اليوم وبجدّ لمساعدة هؤلاء الأطفال في قياس نسبة السكر وإعطائهم الإبرة، موضحا أن بعض الإحصاءات تشير إلى وجود طبيب واحد في كل مقاطعة وليس في كل مدرسة. وعن النشاطات التي تقوم بها جمعيته إزاء هذه الشريحة من المرضى، أكد السيد أوحادة أنه يحرص كثيرا على التربية الصحية من خلال الحملات التحسيسية التي تنظمها جمعيته من حين إلى آخر، كما يحرص على تنظيم نزهات وخرجات الهدف منها الترويح عنهم وكذا تحسيس كل طفل منهم بأنه ليس الوحيد المصاب بالمرض، بل كثيرون هم في نفس وضعيته. الغذاء السليم والرياضة كوقاية.. وتقبّل المرض للعيش بأمان يقول البروفيسور بلحاج إنه من المستحيل في الوقت الراهن الوقاية من النوع الأول، بعكس الصنف الثاني الذي يمكن الوقاية منه في العديد من الحالات بالحفاظ على قوام رشيق وصحي وممارسة النشاطات البدنية بانتظام. أما بالنسبة إلى المصابين بالمرض، فنصحهم المتحدث بتقبّل المرض والتعايش معه للعيش بأمان قائلا "بإمكان هؤلاء الأطفال ممارسة حياتهم بصفة عادية والنجاح في المشوار الدراسي وأن يصلوا مرحلة البلوغ دون أن يتكبدوا الانعكاسات السلبية للمرض وأن يتجاوزوا الصعوبات النفسية والاجتماعية، فقط إن تفهموا وضعهم الصحي وحرصوا على اتباع إرشادات الأطباء وهو ما يتأتى عن طريق التربية الصحية السليمة".