خلّف التغيير الذي شهدته إدارة سوناطراك، الذي جاء بعبد المؤمن ولد قدور مديرا عاما لها خلفا لأمين معزوزي، مخاوف لدى أوساط فرنسية، من أن تكون السلطات الجزائرية قد غيرت بوصلة وجهتها نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي يحسب عليها الوافد الجديد بحكم علاقته بوزير الطاقة الأسبق، شكيب خليل، وكذا تكوينه الأنجلوساكسوني. ومما زاد من مخاوف الفرنسيين هو أن هذا التغيير تزامن وتسريب معلومات عن تجدد انحياز باريس نحو الموقف المغربي بشأن القضية الصحراوية، فيما عرف بالتعليمة السرية التي وجهتها فرنسا إلى نوابها في البرلمان الأوروبي، الذي دعتهم فيه إلى دعم الموقف المغربي الرافض لقرار محكمة العدل الأوروبية التي قضت بمنع استيراد المنتجات التي مصدرها الصحراء الغربية. فما مدى جدية هذه المخاوف؟ وهل حقيقة شرعت الجزائر في مراجعة مواقفها من مستعمرتها السابقة؟ وهل إبعاد مسؤول في دولة صديقة واستبداله بآخر يستدعي مثل هذه المخاوف؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عنها.
حرب مواقع بين واشنطنوباريس في الجزائر من يربح أكثر؟ حدثان قد يبدوان معزولين لكنهما تقاسما عامل الزمن خلال الأسبوعين الأخيرين، خلّفا العديد من القراءات ذهبت في مجملها إلى الحديث عن وجود محاولات تموقع على محوري الجزائرباريس، الجزائرالولاياتالمتحدةالأمريكية. الأول هو المذكرة السرية التي وجهتها السلطات الفرنسية إلى نوابها في البرلمان الأوربي، التي حثتهم فيها على دعم الموقف المغربي في نزاعه مع العدالة الأوربية، التي كانت قد أصدرت قرارا يقضي بمنع بروكسل استيراد المنتجات الفلاحية التي مصدرها الصحراء الغربية. هذه المذكرة، وإن لم يصدر أي موقف رسمي بشأنها من قبل السلطات الجزائرية، إلا أنها خلفت، حسب مراقبين، غضبا شديدا لدى الطرف الجزائري، الذي قدم الكثير لنظيره الفرنسي على العديد من الأصعدة، الاقتصادية منها والسياسية وحتى الأمنية، ولم يكن ينتظر "خرجة" من هذا القبيل. ومن هذه الزاوية، ينظر المراقبون إلى موقف باريس هذا، على أنه طعنة في ظهر التقارب الجزائري الفرنسي وإخلال بتوازنه، لا سيما أن باريس على دراية تامة بأن القضية الصحراوية تعتبر من أكبر الملفات الحساسة بالنسبة إلى الدبلوماسية الجزائرية. أما الحدث الثاني، فكان إبعاد أمين معزوزي من إدارة سوناطراك، واستبداله بعبد المؤمن ولد قدور، الرئيس المدير العام السابق، للمؤسسة المختلطة، "بي آر سي"، التي كانت تملكها كل من سوناطراك وشركة هاليبرتون الأمريكية، التي تم حلها على خلفية قضية فساد عالجتها العدالة في عام 2007. ويعتبر ولد قدور من الرجالات المحسوبين على وزير الطاقة والمناجم الأسبق، شكيب خليل، الأمر الذي كان وراء اعتقاد البعض أن هذا التعيين حمل بصمات وزير الطاقة الأسبق، كما يعتبر ولد قدور أيضا من الإطارات الجزائرية التي تكونت في الولاياتالمتحدةالأمريكية (معهد ماساتسوشيتس)، وهو ما يرجح وجود ميولات لديه نحو التوجه الأمريكي، الذي سيستريح من دون شك بهذا التعيين، لكون ولد قدور سيعمل، على الأقل، على استمرار هيمنة الاستثمار الأمريكي على المشهد الطاقوي في الجزائر. هذه المقدمات تعطي الانطباع وكأن الأمر يتعلق بصراع مصالح بين المستعمرة السابقة فرنسا، التي تركت شبكة نفوذ ولوبيات قوية داخل الإدارة الجزائرية موروثة عن الحقبة الاستعمارية، وبين القوة العظمى الأولى في العالم، ممثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تصر على أن يكون لها موطئ قدم في كل المناطق التي بها منابع نفط. ولم يكن اهتمام الولاياتالمتحدة بالنفط الجزائري وليد اليوم، فهو يعود إلى البدايات الأولى للاستقلال، غير أن زيادة الاهتمام الأمريكي بالجزائر شهد خلال السنوات القليلة الأخيرة تطورا لافتا، بامتداد الشراكة إلى مجالات أخرى خارج النفط والأمن، إلى قطاعات أخرى غير معهودة. فالتقارب الجزائري الأمريكي بدأ يأخذ أبعادا غير مسبوقة منذ الزيارة التي قادت الوزير الأول عبد المالك سلال إلى واشنطن في مارس 2016، حيث التقى مع مسؤولي كبريات الشركات الأمريكية الناشطة في مجال الطاقة، مثل العملاق "هاليبرتون" الناشطة في مجال الخدمات الطاقوية، إلى جانب مسؤولي "أنداركو"، التي تعكف على عمليات استكشاف وتطوير حقول نفط وغاز في جنوب البلاد، فضلا عن مؤسسة "جنرال إلكتريك"، التي استفادت من عقود ضخمة مع كل من شركة سوناطراك وسونلغاز، في أعقاب زيارة كاتبة الدولة الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون إلى الجزائر، مثلما توسعت العلاقات بين الجزائروواشنطن لتشمل مجالات أخرى مثل الطب والصيدلة والأمن الغذائي. في المقابل، يبدو النفوذ الفرنسي يتجه نحو الانحسار، إما بحكم طبيعة النشاطات السهلة والخدماتية التي يحرصون على الاستثمار فيها، مثل السيارات والخدمات البنكية.. أو بحكم تضييق من قبل الطرف الجزائري الذي ضاق ذرعا بالخرجات "الماكرة" لباريس، التي تتعمّد الإمعان في الإضرار بالمصالح الجزائرية، رغم محاولاتها إظهار عكس ذلك.
وزير الصناعة الأسبق عبد القادر سماري: "السياسة لا تلغي المصالح الاقتصادية" توجيهات سرية للمسؤولين الفرنسيين بدعم الموقف المغربي في القضية الصحراوية رغم الاستقرار المسجل في العلاقات الجزائرية الفرنسية.. ما تعليقكم؟ أولا؛ يجب على الجزائر ألا تخلط بين مختلف الأوراق والتوجهات، فمن ناحية نعترف جميعا أن الدولة الجزائرية، ظلت وستبقى تدافع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وقرارات الأممالمتحدة، بما في ذلك ملف الصحراء الغربية، الذي يكتسي أهمية قصوى بالنسبة للجزائر، وهو الملف المطروح على مستوى الأممالمتحدة، إلا أن هذا لا يعني تباعد العلاقات الجزائرية الفرنسية وفتورها، فالكل سيدافع عن مصالحه ومبادئه بطريقة الند للند، وفيما عدا ذلك لكل دولة مصالحها الاقتصادية التي تسعى لتكريسها وحمايتها، وبالمختصر المفيد مهما كان موقف فرنسا تجاه قضية الصحراء الغربية، فموقف الجزائر تجاه هذه القضية واضح جدا، والعلاقات بين فرنساوالجزائر لا تقتصر على هذا الملف، فهنالك العديد من القضايا السياسية والاقتصادية. تحظى المصالح الفرنسية في الجزائر بالكثير من التفضيل مقارنة بغيرها من الدول، في الوقت الذي تصر باريس على الإساءة إلى الجزائر (إقامة مصنع "رونو" في المغرب وخذلان القضية الصحراوية..)، هل أنتم مع ربط البعد الاقتصادي مع الدبلوماسي في العلاقات الجزائرية الفرنسية؟ أنا ضد القول إن العلاقات الاقتصادية بين الجزائروفرنسا مربوطة بالجانب السياسي، وهذا المبدأ ليس مطبقا فقط بين هاتين الدولتين، فعلاقات العديد من الدول مضطربة من الناحية السياسية إلا أنها تشهد ودا اقتصاديا تترجمه المصالح المتبادلة، وهذا ما يمكن قراءته في العلاقات الألمانية وعدد من الدول الأوروبية أو العكس أيضا، وكذا بالنسبة للعاقات الأمريكية مع جيرانها بالقارة وحتى في أوروبا ،أي قد يكون هنالك انسجام سياسي ولكن علاقات اقتصادية فارغة، بسبب غياب المصالح، وفي ملف إنشاء مصنع "رونو" و"بيجو" بالمغرب، فقد ردت عليه السلطات الجزائرية باستقدام مصانع "هيونداي" و"مرسيدس" و"فولكسفاغن"، وهذا ما يؤكد فرضية التعامل الند للند، وعدم خلط السياسة في الاقتصاد. كيف السبيل لإعادة التوازن للعلاقات بين الجزائروباريس؟ أنا شخصيا أرى أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لم تشهد خلال المرحلة الحالية أي نوع من التوتر أو الفتور، فبالنسبة إلى السياسة لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، ولكن أعتقد أن المصالح هي الدائمة، وكذلك الحال بالنسبة للاقتصاد، وبالمقابل، أعتقد أن توجه الجزائر نحو شركات أجنبية غير فرنسية، لا يجزم بوجود توتر العلاقات بين البلدين أو قطيعة اقتصادية، بل على الحكومة الجزائرية أن تنوع اقتصادها وتعاملاتها ولا تبقى مرتبطة بدولة واحدة، حتى تستطيع ضمان تغطية كافة احتياجاتها، فما نشهده من حروب على الأسواق والتسابق حول الدولة التي تحظى بأكبر قدر من الصفقات هي صراعات مصالح، والجزائر يجب أن تكون متوازنة في هذه الحروب، وتنظر إلى مصلحتها السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى. ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن تعيين عبد المؤمن ولد قدور على رأس مؤسسة سوناطراك، انتصار للمصالح الأمريكية في الجزائر على حساب نظيرتها الفرنسية.. ما قولكم؟ أنا لا أعرف تاريخ هذا الرجل حتى أحكم عليه، ولكن ما يمكنني قوله إن هناك منافسة علنية اقتصادية وحروبا غير معلنة، للظفر بالسوق الجزائرية، وهذه الحروب لا تقودها فرنساوأمريكا، بل كافة الدول التي تريد أن تتموقع في السوق العالمية، وهو ما تزايد بشكل أكبر نتيجة الاختلال الحاصلة في الاقتصاد العالمي، وما يهمنا بالدرجة الأولى أن ندفع نحو الأمل في القضايا الاقتصادية، فكل من أمريكاوفرنسا تبحث عن مصلحتها في الجزائر، وتغطية انعكاسات الوضع الاقتصادي الدولي الراهن بإيجاد أسواق جديدة وكذلك الوضع اليوم، بالنسبة للجزائر، يجب أن تبحث عن مصلحتها وتنوع تعاملاتها ولا تبقى حكرا على الفرنسيين أو أي جنسية أخرى.
الأستاذ بمعهد العلوم السياسية والإعلام عبد العالي رزاقي: "لا أعتقد بوجود توجه نحو تغليب المصالح الأمريكية في الجزائر" بداية، ما تعليقكم على التوجيهات السرية للمسؤولين الفرنسيين بدعم الموقف المغربي في القضية الصحراوية رغم الاستقرار المسجل في العلاقات الجزائرية الفرنسية؟ من الطبيعي ألا تدعم فرنسا قضية الصحراء الغربية، ولا تراعي علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الجزائر، لعدة أسباب، منها أن عدة مسؤولين فرنسيين يملكون أراضي في الصحراء وتربطهم علاقات مع شخصيات نافذة يهودية في المغرب، بالإضافة إلى الاستثمارات التي تملكها باريس في المغرب، حيث تعتبرها شريكا اقتصاديا متميزا، كما أنها تحترمها بسبب الإمكانيات والمرافق التي قامت بإنجازها خلال السنوات الأخيرة، حيث لا ننسى أن هناك عدة شخصيات فرنسية تتوجه إلى المغرب لقضاء عطلتها هناك، أضف إلى ذلك المعاملة، حيث يحظى الفرنسيون في المغرب بمعاملة خاصة من طرف السلطات المغربية، وهذا ينعكس بطبيعة الحال على الملفات الدبلوماسية وقضية الصحراء الغربية بالدرجة الأولى، حيث لا ننسى أن الجزائر تظل مجرد سوق لفرنسا لا أكثر ولا أقل، ولا تتعامل معها كدولة مستقلة للأسف. تصر باريس على الإساءة إلى الجزائر بطريقة أو بأخرى والأمثلة عديدة، رغم أنها تحظى بالكثير من التفضيل مقارنة بغيرها من الدول؟ لا تزال السلطات في بلادنا تسهل مهمة الفرنسيين حتى تبقى في السلطة، والإحصائيات تؤكد ذلك، وعندما نأخذ الصناعات الفرنسية في الجزائر نجد أن فرنسا لم تقم بأي مشروع استثماري إلى حد الساعة كما تفعل في المغرب، كما أنها تحاول استغلال المال العام الجزائري فقط، وأحسن مثال شركة رونو لتركيب السيارات، التي تبقى علامة مرفوضة في أوروبا لكن في المغرب نرى أنها تقوم بتدريب وتكوين اليد العاملة المغربية حتى إن الاتفاقية المبرمة مبنية على التصدير وحتى الاستثمار في قطع الغيار، ولما نأتي إلى الجزائر، فإن المصنع مجرد وسيلة لتسويق هذه السيارات إلى الجزائريين فقط. في نظركم؛ لماذا لم تستغل الجزائر علاقاتها المستقرة مع فرنسا في الملفات الاقتصادية؟ نحن لا نطالب بأبسط الأمور ولا نفكر حتى في استرجاع حقوقنا المهضومة من طرف فرنسا رغم مرور سنوات على ذلك. والغريب في الأمر أنه حتى السلطات الجزائرية لا تقوم بالتسهيل للجمعيات والمنظمات لاسترجاع حقوق الجزائريين، لأن حزب فرنسا لا يزال يحكم في الجزائر، وكأن الجزائر مستعمرة فرنسية.. ولذا نقول إن الجزائر لا توظف أو دعونا نقول لا تستغل ما تصفه بالعلاقات الدبلوماسية الجيدة في الضغط على فرنسا اقتصاديا وإجبارها على تغيير نظرتها تجاه السوق الجزائرية. كيف السبيل إلى إعادة التوازن للعلاقات بين الجزائروباريس؟ السبيل الوحيدة والأوحد أن نتعامل مع فرنسا كدولة مثلها مثل بقية الدول الأوروبية، لأن هذا الأمر سيقودنا لا محالة إلى المطالبة بالمطالب الشرعية واسترجاع أبسط أمر وهو جماجم الشهداء التي لا تزال محتجزة في متحف الإنسان بباريس، على اعتبار أن هذا الأمر ينم عن نوع من احتقار الجزائر نفسها، حيث يجب علينا أن نحسم أمورنا بشكل قطعي تجاه المستعمر ولا نعود إلى ممارستها أو الحديث عنها، كما يتعين أن تتوفر الإرادة السياسية بداية من مجلس الوزراء والحكومة وأن يتحدث الوزراء فيها باللغة العربية أو الأمازيغية. ذهب البعض إلى الاعتقاد أن هناك توجها في أعلى هرم السلطة إلى نحو ربط علاقات أكثر مع أمريكا على حساب نظيرتها الفرنسية.. ما قولكم؟ لا أعتقد أن هذا صحيح في نظري، لأن المصالح الفرنسية أو التجذر الفرنسي لا يزال قائما ويجب فتح قوس هنا، وألا نقرأ في ما يسمى بإعادة الاعتبار للإطارات السابقة خاصة في سوناطراك على أنه توجه جديد نحو المصالح الأمريكية وترجيح كفتها.