"التقاعد" كلمة وإن تراها فئة من الموظفين الذين أرهقهم العمل وأثقلت كاهنهم المسؤوليات، راحة بعد تعب أو فرصة لخوض نشاطات حرة تليق بهم ودون تقييد من أي جهة، فإنها عند الكثير من الجزائريين خاصة اليوم في ظل سياسة التقشف، بمثابة موت بطيء وخوض في صراعات نفسية واجتماعية قد تسقطهم في هوة التيهان وبالتالي الجنون أو الموت! وحسب المختصين في علم الاجتماع وعلم النفس، فإن فئة المتقاعدين اليوم في ظل تراجع المكانة الوظيفية القيمية الاجتماعية وطغيان المكانة الاقتصادية، باتت مهددة أكثر من ذي وقت مضى، حيث ارتفع حسبهم معدل الوفاة عند المتقاعدين بصورة مذهلة، لا تتعلق بتقدمهم في السن. بالمقابل، كشفت المحاكم الجزائرية في السنوات الأخيرة عن واقع مؤلم لإطارات ومسؤولين وعسكريين، وموظفين في الإدارة أحيلوا على التقاعد فأوقعهم الفراغ في جرائم وصلت إلى حد القتل!
الأرصفة والمقاهي..الصورة البائسة للمتقاعدين في الجزائر وقد يرى الكثير من الجزائريين الذين دخلوا مرحلة التقاعد، ولم يجدوا نشاطا يملأ وقتهم، في المساجد والمقاهي فضاء اجتماعي يحاول من خلاله أن يكسب قيمة اجتماعيةتعوضه حسب الدكتور يوسف حنطابلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة البليدة، عن القيمة المفقودة، وإن هذين المكانين باتا يستقبلان هذه الفئة لاعتبارات روحية رمزية يحاول من خلالها المتقاعد أن يجد فيها قرينه. ومن خلال جولة استطلاعية ل "الشروق" في بعض المساجد والمقاهي بالعاصمة، تبين أنه حتى هذه الفضاءات، وحسب بعض المتقاعدين الذين تحدثنا إليهم، لم تعد تنسيهم في روتين فراغهم، وباتت الحدائق والمقاهي خاصة تجلب لهم المشاكل.
من فراغ قاتل وقلق هائل إلى وسواس قاهر..فجرائم! وتفتح المشاكل لدى المتقاعدين، باب الأفكار المشوشة، وفي الغالب تكون حالتهم النفسية بداية للمشاكل، تنجم عن قلق هائل ووساوس تبدأ بإحساس المتقاعد بأن المجتمع لا يرغب فيه. تؤكد المحامية لدى مجلس قضاء الجزائر، زهية مختاري، أن 3بالمائة من قضايا الشجارات في المحاكم، المتهمون فيها هم فئة المتقاعدين، حيث إن الفراغ الذي يعيشونه، خاصة في الأحياء التي يسكنون فيها، يدخلهم في صراعات مع الآخرين، كما أن الكثير من الزوجات يتعرضن حسبها لعنف أو طلاق من طرف رجال كانوا يتولون مناصب مهمة أو فيها مسؤولية حساسة وأحيلوا على التقاعد فأصيبوا بنوع من المرض النفسي الغريب جعلهم يثورون ضد أقرب الناس إليهم. وأشارت إلى تسجيل القضاء الجزائري منذ 4سنوات الأخيرة للكثير من قضايا قتل ارتكبها متقاعدون مسؤولون في وظائف حساسة.
شيخ يطلق زوجته بعد إحالته على التقاعد وأعطت ذات المحامية مثالابقضية تتعلق بشيخ في ال79سنة، طلق زوجته مؤخرا وطردها من المسكن في الحراش، حيث تغيرت تصرفاته بعد إحالته على التقاعد، وأصبح متوترا جدا، حيث كان مسؤول ورشة بناء تابعة لشركة عمومية. زوجته الطاعنة في السن وجدت نفسها دون مأوى في حين خلفتها في البيت زوجة شابة. وسبق لمحكمة البليدة سنة 2014، أن أدانت ضابطا متقاعدا من الجيش يبلغ من العمر 64سنةيدعى"ب. ع"، عن قضية ضرب وجرح ضد زوجته، التي أسقطها أرضا فاصطدم رأسها بالحائط،بعد أن نشب بينهما شجار لأنه رفض حسب تصريحاتها أن يأخذها إلى الطبيب.
..وثمانيني يتورط في المخدرات وهو موظف متقاعد سائق شاحنة متقاعد كان يعمل في شركة عمومية،من قاطني حي كوريفة بالحراش، تورط السنة الماضية في قضية اتجار بالمخدرات،وتم الزج به في الحبس المؤقت لأكثر من شهر، لكن محكمة الحراش برأته من هذه التهمة، وتبين أنه يعاني من اضطرابات نفسية بدأت معه في مرحلة التقاعد، وأنه كان يتردد دائما على نفس المقهى.
القتل وانتحال الصفة..جنون العظمة عند متقاعدين عسكريين ومسؤولين قضايا كثيرة ومتنوعة تتعلق بانتحال الصفة والقتل ارتكبها كهول وشيوخ أحيلوا على التقاعد وهم في غالبهم حسب الطب الشرعي والمختصين في علم النفس مصابون بجنون العظمة، سجلتها المحاكم الجزائرية مؤخرا. أدانت محكمة سيدي محمد مؤخرا، عقيدا متقاعدا من الجيش بعقوبة 3سنوات حبسا عن تورطه في قضية نصب واحتيال راح ضحيتهاأحد المواطنين كان قد دفع له عربونا بمليارين و600مليون سنتيم عن فيلا ليكتشف أن العقد مزور. وفي سنة 2015، ألقت شرطة الدار البيضاء بالعاصمة القبض على عسكري متقاعد بالجيش الوطني الشعبي،كان يستغل رخصة سياقته العسكرية، للإفلات من الحواجز الأمنيةقصد تحويل مركبات من الجزائر العاصمة إلى ولاية عين الدفلى لصالح عصابة خطيرة تنشط بين ولايات في مقدمتها البليدة. كما أوقفت مصالح شرطة وهران في ذات السنة عسكريا متقاعدا انتحل صفة عقيد ونصب على عدة جزائريين بينهم إطارات سامية وأوهمهم بسكنات ومحلات مقابل مبالغ مالية معتبرة. وخلال 2015 دائما أقدم دركي متقاعد على قتل زوجته داخل منزله، ببلدية الخروب بقسنطينة، بواسطة سلاح أبيض أرداها قتيلة، وقد فتح تحقيق في القضية حيث تبين أنه مصاب باضطرابات نفسية. وقام إطار متقاعد من الأرصاد الجوية الجزائرية يبلغ من العمر 76سنة، بقتل زوجته البالغة 65سنة وذلك في منطقة حطاطبة بتيبازة، حيث اعتدى عليها بسلاح أبيض "راشكلو"، ورمى بنفسه من نافذة العمارة التي يسكن فيها لكنه لم يمت. وشهدت قرية إغيل عنتر ببجاية سنة 2009، جريمة قتل بشعة ارتكبها شيخ يدعى"ب. إ" يبلغ من العمر 96سنة، حيث كان يشتغل إماما وأحيل على التقاعد، فقتل زوجته الشابة بساطور سدده إلى رأسها فأرادها أرضا وقام بعدها بذبحها بالسكين كما طعنها في القلب ثم سلم نفسه للأمن. وبرر جريمته بأنه قدم زوجته قربانا للجن الذي كان يضايقه كونه يمارس الشعوذة. لكن تبين فيما بعد أنه يعيش حالة نفسية.
مختص في علم النفس: أمراض خطيرة تهدد المتقاعدين تبدأ ب"عصاب وسواسي" قال الدكتور مسعود بن حليمة، المختص في علم النفس، إن المتقاعد الذي لا يخرج من عمله لنشاط آخر، لا يشعر في الشهر الأول وحتى الثاني أحيانا بحالة الاكتئاب لأنه ينظر إليها كعطلة مؤقتة، لكنه سرعان ما يدخل في مرحلة الأفكار المشوشة، ويبدأ التفكير في الوظيفة ودردشة الزملاء. ويصل، حسب بن حليمة بعدها، إلى ما يسمى بالاضطرابات النفسية بكثير من القلق، يؤدي عند بعض المتقاعدين إلى أفكار غريبة أو ما يسمى ب"عصاب وسواسي"، ويتخيل أن المجتمع غير مرغوب فيه. وتؤدي الأمراض النفسية عند هؤلاء حسبه، إلى أمراض عضوية كالضغط الدموي،وألم المفاصل. الصراع الداخلي، يقول الدكتور بن حليمة، هو العالم الخيالي الذي يعيشه المتقاعد في الجزائر في ظل نقص أماكن الترفيه. وأكد أن نسبة كبيرة من الموظفين والعمال في الجزائر خاصة موظفي قطاع التعليم، يصابون بأمراض خطيرة بعد التقاعد، أهمها الصرع، والشلل النصفي، والهذيان والزهايمر، عدم التركيز، وجنون العظمة عند إطارات الجيش والمسؤولين السامين. ويرى أن العلاج يكمن في استمرار النشاط التعويضي للوظيفة كالدخول في الحركات الجمعوية، والنشاطات الفكرية والإبداعية، ومؤسسات تجارية خاصة، ونشاطات فيها سفر وتنقل، حيث امتداد الوظيفة الجسدية يخلق علاقة اجتماعية مستمرة.
حنطابلي: ارتباط الوظيفة بالجانب المادي سيزيد أزمة المتقاعدين يرى يوسف حنطابلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة البليدة، أن المجتمعات المعاصرة أصبحت تعطي قيمة مادية للوظيفة والعمل، حيث تقلص الجانب الاجتماعي والمكانة الوظيفية القيمية الاجتماعية التي كانت تتميز بها المسؤوليات والوظائف وبات التحصيل المالي والجانب الاقتصادي هو القيمة المرتبطة بالعمل، وبالتالي فإن المتقاعد يفقد هذه القيمة حتى داخل أسرته. ومع سياسة التقشف سيتأثر أكثر.ودعا حنطابليإلى التغيير من طبيعة الوظيفة بتغيير النشاط أي أن المتقاعد اليوم في الجزائر لابد ألا تستغني عنه المؤسسات وأماكن العمل وذلك من خلال تغيير نشاطه فقط أو الاستفادة من خبراته في المحاضرات والتجمعات واللقاءات.
فراغ قاتل ..قلق هائل ووسواس قاهر ! تعد الوضعية الاجتماعية التي يعيش في ظلها أغلب المتقاعدين صعبة لا تبعث على الاطمئنان، ولكن لا يمكن أن نغض الطرف عن التحولات التي سوف تطرأ عليهم مع توالي السنين، حيث إن الظروف الراهنة تحتم النظر في القضية بعين المفكر المتعقل، وأن نفكر جميعا، دولة ومجتمعا مدنيا، في خلق فضاءات تكميلية اجتماعية ثقافية للتكافل الاجتماعي بهذه الشريحة التي يزيد عددها عن 05 ملايين مواطن. يجب على العاملين الاجتماعيين في مجال الأشخاص المسنين أن يدركوا نوعية الفراغ الذي تعاني منه فئات المتقاعدين والمتقاعدات وذوي الحقوق والأرامل والمسنين والعجزة الذين يحتاجون إلى مراكز اجتماعية ذات طابع ثقافي وتكويني يليق بمستوى عيشهم "السوسيو-اقتصادي"، لكي نخلصهم من وطأة الملل، ونشغل وقتهم بما هو إيجابي، حيث يجب أن يحس الجميع بالكرامة عبر أجواء توفر الحق في العيش السوي، في التطبيب، في الثقافة والفن والانفتاح على الشرائح الاجتماعية الأخرى، من أجل توسيع أفق الاطلاع والمعرفة ومحاربة الانزواء والإقصاء بكل أنواعه. من خلال جولتنا الاستطلاعية، التي قمنا بها ببعض مقاهي ولاية تيزي وزو وبعض الأحياء التابعة لها، وقفنا عند العديد من الأمثلة لمتقاعدين كانوا يشتغلون كمسؤولين في مؤسسات عمومية، وفجأة فقدوا الثقة في أنفسهم ولم يتمكنوا من التأقلم مع من حولهم. وأردف السيد "ب. م"، أستاذ متقاعد منذ أربع سنوات، التقينا به بأحد مقاهي تيزي غنيف، أن التقاعد يولد الشعور بالوحدة خاصة عند التقدم في السن، إذ يشعر الشخص بأنه كئيب قلق، بالإضافة إلى أن جلوسه بالمنزل يجعله يفقد التواصل مع الناس في الشارع، وهو رأي أحد المتقاعدين الذي أعرب لنا عن حالته التي وصفها بالمملة. يبقى انعدام فضاءات الترفيه هاجس المتقاعدين، حيث كثيرا ما نلمح من بعيد أشخاصا كبارا في السن لم يجدوا سوى المقاهي، وأزقة الحي أو المساحات الخالية مكانا للجلوس، بسبب انعدام فضاءات خاصة بهم. وعليه يقول أحد الشيوخ الذي تحدثنا إليه بالحديقة العمومية بمدينة تيزي وزو، إنه لا يجد مكانا يذهب إليه هو وأصدقاؤه لملء فراغه سوى الجلوس في الحي أو المقهى أو في بعض المساحات الخضراء. وأضاف صديقه قائلا: "في زماننا كنا نتجول ونسافر إلى كل مكان، والآن لم نعد نستطع التنقل للترفيه عن النفس بحكم كبر سننا". وفي هذا الصدد، قال أحد الأساتذة الذي لا يزال يمارس مهنته، إنه من الواجب على كل مقبل على التقاعد أن يحضر نفسه مسبقا قبل أن يحال على مرحلة التقاعد، حيث هناك أشياء كثيرة يستطيع المتقاعد أن يقوم بها دون الذهاب إلى مرافق للترفيه، عن طريق التفكير في إنجاز مشروع خاص به، أو بمشاركة متقاعدين آخرين يستثمرون فيه وقتهم ونقل خبراتهم التي اكتسبوها من عملهم والحياة التي عاشوها لفائدة المجتمع. وقبل مغادرتنا لهذه الشريحة التي التقينا بالعديد منهم في أماكن مختلفة كرروا علينا الكثير من الأسئلة والتساؤلات: متى تتحسن أوضاعنا ومعاشاتنا؟ إننا نعيش وسط دوامة لا نعرف مصيرها إلى أين ستصل بنا؟ نقرأ في الصحف أن هناك زيادات في المعاشات التقاعدية بنسبة معينة، وبعدها نقرأ مرة ثانية أنها تغيرت من وإلى! وبعدها نسمع أنه لا توجد هناك أي زيادات في المعاشات التي ننتظرها في طوابير غير منقطعة النظير لتبقى في جيوبنا أياما إن لم نقل ساعات، لعدم قدرتنا على تغطية احتياجاتنا بها. فمتى ينظر إلينا بعين مسؤولة؟