قد يراني البعض متشائما إلى أبعد الحدود، أو قد أصنّف في خانة المتحاملين الذين يتواطأون مع العدو لأجل خدمته والتطبيل له، أو قد يذهب آخرون في تخميناتهم إلى أبعد من هذا أو ذاك... * لكنّني أردت أن أتحدث بصراحة ومن دون لف ولا دوران، وأعالج في رؤيتي ما سمعته من الكثيرين في الشارع العربي خصوصا والإسلامي عموما بل حتى الغربي منه الذي لا ينحاز إلى أي طرف. مادام هذا الأمر لمسناه يتردد في الأرصفة والمواقع المختلفة فهو يؤكد على مؤامرة تستهدف فلسطين أولا وقبل كل شيء، وأن ما يشنّف مسامعنا من الشعارات الطنّانة والرنانة لا يمكن أن تقدم شيئا للقضية لأن تحرير البلاد والعباد لا ولن يأتي عبر مكبرات الصوت ولا بالاستحمام في غرف النوم ولا بهزّ الخصر والبطن في المواسم، بل التحرير يأتي عبر مفاهيم وقيم تتجسد أولا وقبل كل شيء في أرض الواقع بعد زحفها على أطروحاتنا الفكرية والسياسية والعقدية، أما أن نجدها في الكلام المنمق الذي تتقاذفه الفضائيات على ألسنة من يبحثون عن البطولة ولو كانت وهمية لأجل إسعاد أنفسهم في لحظات الشبق السياسي، فإن ذلك لن يزيدنا إلا تأخرا وغرقا في الاحتلال والإحلال والإذلال والإهمال والإسهال. * * الحرية ليست بالشعارات ولا على الفضائيات * يجب أن ننطلق من منظور أساسي وهو أن إسقاط الاحتلال ودحره معناه إنهاء دولته وإرساء دعائم الدولة الأصلية أو البديلة وفق منظور الشعب ورائحة التراب والوعي الإيديولوجي، ولا يمكن إسقاط دول قائمة ولو كانت عبر الاحتلال بالتخريب الذي يطال القيم الروحية والهوية والبنى المادية والأساسية، بل يجب أن تكون الدولة البديلة أقوى بكثير في جانبها العسكري والسياسي وصلبة في أسسها المختلفة. وبين هذا وذاك يجب أن تتجذّر هذه الدولة في أعماق الشعب وتطرد الآخر كما تنسف المبيدات الحشرات الضارة، بل يجب أن تزحف على قلوب ومشاعر وعقول الناس فتجتث ما علق فيها من براثن الكيان المعادي. * وننبّه إلى أمر هام أن الشعارات الساخنة المدغدغة للمشاعر لا يمكن أن تحرر أرضا ولا تحمي عرضا، كما لا يمكنها أبدا أن تقيم حكما ذاتيا في مجموعة من البدو الرحّل نراهم يتيهون في البراري بحثا عن عشب دوابهم. يجب أن نوازن بين البعد الجوهري والجانب الشكلي أو بتعبير أدق يجب أن نكامل بين الروحي والمادي في تفعيل أطروحات التحرير والاستقلال، فلا يمكن أبدا أن تجوّع شعبا وتنهب ثرواته وتتاجر بها في أسواق النخاسة وتتسبب في تدميره وحرق أطفاله وتهشيم ضلوع بناته وأنت لا تقدم لهم شيئا سوى المحاضرات والدروس والخطب الزئبقية والعنتريات الفارغة والتعازي المزركشة سواء عبر الفضائيات أو في الصالونات المكيّفة أو حتى على منابر المساجد أو تحت أجراس الكنائس. * لا يجب الإصرار على الزعم بأن الشعوب العربية والإسلامية لا يمكنها أن تتأثر بشيء دنيوي لأن لها عقيدة دينية محضة تحرّض على الشهادة وتحفّز على الفردوس وحور العين، وهذا كلام مجافي للحقيقة التي نراها ونلمسها على أرض الواقع ونسمعها ممن نتواصل معهم سواء في الداخل الفلسطيني أو في الشتات أو عرب 48 أو لدى عموم الشارع العربي والإسلامي. ومثل هذا الكلام يدخل في أجندة تدمير مشروع التحرر الذي ننشده جميعا سواء في إطار الحق التاريخي الذي تفرضه القيم المتعارف عليها في مخيالنا السياسي والديني أو في إطار الحق الإنساني الذي تفرضه مواثيق دولية كثيرة لا زلنا نؤمن بها ونناضل من أجل تفعيلها وفق ما يخدم الإنسانية جمعاء وليس ما يحمي مصالح هذا على حساب ذاك. * إن عقلية الاستهتار والاتكال التي صارت تسيطر على المشهد هي من بين أبرز العوامل التي تساعد على بناء كيان الدولة العبرية بل ستحقق حلمها الممتد من الفرات إلى النيل عاجلا أم آجلا، فقد بلغ أمر الاتكال ليس على العرب فيما بينهم فقط بل وصل حد الاتكال على الله الذي وعد المسلمين بأن ينتصر لهم وينهي اليهود وإسرائيل من على البسيطة. فلذلك تجدهم يرددون جبنا في مخادع نومهم الكثير من الأحاديث المهددة بزوال الكيان بل يستشهدون حتى بتصريحات بن غوريون القاضية بنهاية إسرائيل لما تهزم، وربط الأمر بحرب تموز 2006 التي جرت وقائعها بين "حزب الله" اللبناني والجيش الإسرائيلي وأدت حسبهم إلى هزيمة نكراء مني بها الإسرائيليون. بالرغم من أن هذا الكلام لا يخدم إلا إسرائيل نفسها التي تتخذ من المحرقة والنهاية والإبادة ذريعة لإجبار المجتمع الدولي على دعمها، وهو الكلام نفسه الذي سمعناه عشية نكبة 1948 ثم سمعناه في هزيمة 1967 وتردد أيضا في صفقة 1973 ولكن الواقع عكس ذلك فقد ازدادت إسرائيل قوة وسقطت دول جديدة محورية في يد الاحتلال الأجنبي ولا تزال أخرى في الطريق، وأكثر بدأ التفتيت يطال دولا ويتربص بأخرى تظهر في مقررات الموساد ومقاربات البيت الأبيض على أنها من محور الشر المعادي للسامية. * الفلسطينيون أنفسهم في أغلبهم صاروا عاجزين لأسباب كثيرة بينها الموضوعي الذي لا يلامون عليه وبينها الملفق الذي يجب تعريته، وتحول الكثيرون منهم إلى إتكاليين حتى أبعد الحدود فكل ما يحدث إليهم يقابل بالبكاء على الشاشات واستنفار العرب والمسلمين والذين هم أنفسهم يعيشون الإحتلال الداخلي الذي لا يختلف وحشية عما يحصل في فلسطين مادامت النتيجة هي الموت والسجون والفقر والجوع والدمار. بل الأمر تجاوز ذروته إلى أن عصابات سيطرت على الشأن الفلسطيني تمكنت من ابتزاز الدول عن طريق جمع الأموال الضخمة التي تتحول إلى شركات ومؤسسات في أوروبا وحتى في إسرائيل نفسها، فهل يعقل أن تقدم الملايين من لقمة الشعوب الأخرى التي تعاني الأمرين وتتحول تلك الثروات إلى جيوب مفسدين ومنها يقيمون المشاريع الضخمة وتدرّ حتى الأرباح على الكيان الصهيوني المحتل مباشرة أو بطرق ملتوية عبر بوابات ومنافذ أخرى معروفة في عالم التجارة الدولية؟!! * * شعوب عاجزة وأنظمة فاسدة ومعارضات للتهريج * الشعب الذي لم يستطع أن يحرر نفسه من هؤلاء المسؤولين المجمع على فسادهم والذين انتخبهم في مسرحيات كوميدية، فكيف يمكن أن ننتظر منه تحرير أرضه من إسرائيل النووية المدعومة من أقوى دول العالم؟ هل من المعقول أن ينتظروا الشعوب العربية التي لا تستطيع بدورها أن تتحرر من حكامها المتسلطين حتى يزحفوا على فلسطين ويحرروا شعبها من قادتها ثم بعدها يحرروا القدس من إسرائيل؟ * هل يمكن أن ينتظر الشعب الفلسطيني زحف الشعب الأردني مثلا ليحرره في حين تستهدف السلطات جنسية الفلسطينيين الذين يعيشون على ترابها تخوفا من أن تصبح أرضا بديلة ولا أحد استطاع أن يغير شيئا؟ * هل يمكن أن ينتظر الفلسطينيون الشعب المصري أن ينتفض ويهجم على معبر رفح ويفتحه ويدمر الجدار الفولاذي ومنه يهرع نحو قطاع غزّة ليحررها من "إحتلال" حماس، وآخرون يصلون لرام الله ويحررونها من "فساد" فتح، وبعدها يزحفون على تل أبيب ويمحونها من الوجود، والشعب المصري نفسه لا يستطيع أن يتحرر من عصابة آل مبارك التي تحكمه وتنهب ماله وتنتهك أعراضه وتبطش به، لو كان هذا الشعب يخيف ما تجرأ عليه بنو جلدته؟!! * هل يمكن أن نتوقع انتفاضة عارمة من شعب يتناحر على الرغيف وقارورات الغاز وغدا لن يجد ما يسقي عطشه لما يحرم من مياه النيل، خاصة أن النظام الحاكم في مصر فضح أمره فهو لا يملك نسخا من اتفاقيتي 1929 و1953 التي تضمن حصته في هذا النهر، لكنه يتباهى بمتاحف وآثار فرعونية عمرها قرون لا تحصى ولا تعد لا تزال محفوظة لأنها تجلب له السواح مما يخدم الشركات النشيطة في هذا المجال والمملوكة للنافذين في السلطة؟ * هل يمكن أن نحتمل شيئا من شعب يجوّع في حين يتقاسم ثروته عصابة من أعضاء الحزب الحاكم في أرض الكنانة بينها ملايير تقدم رشاوى لحماية آخرين فيهم من تورطوا في قتل عشيقاتهم انتصارا لليالي الحمراء أو أغرقوا الآلاف من أبناء الشعب في عبّاراتهم غير الصالحة؟ * هل من الممكن أن نتفاءل بثورة شعبية مصرية على حدود غزّة من شعب أجبره نظامه على التباهي بالماضي الفرعوني الذي كان المصريون فيه عبيدا في حين يتجاهلون محطات أخرى مشرقة ومشرفة؟ النماذج كثيرة ولا يمكن حصرها لو نسترسل في ذكر كل قطر وما يعانيه شعبه من إذلال وخصي وتجويع وإمتهان للكرامة ما كفتنا المجلدات. * عندما نسمع أن الشعوب العربية والإسلامية تعشق فلسطين فأكيد سنصدق مادامت مراجعنا وتراثنا الديني والقومي يحفل بما تقشعر له الأبدان من النصوص التي تحفّز على التضامن والأخوة والتآلف وواجب النصرة وترفع من شأن الأقصى إلى أعلى الدرجات، ولكن أن يأتي أحدهم ويزعم أن الشعوب العربية كاملة تحب الفلسطينيين وتنتصر لهم فهذا كذب وافتراء، لأن الواقع يشهد بغير ذلك، فلماذا نقفز على حبال ونتنطّط على ما لا يزيدنا إلا ذلاّ وقابلية للسقوط والعبودية؟ * لقد تعرض الفلسطينيون في لبنان إلى ما لا يمكن تخيّله وصلت حد الاقتتال كما جرى عام 1969، وآخرها ما عشناه مع أحداث نهر البارد في مايو 2007 التي لاتزال شاهدة على حجم الكارثة وبالرغم من أن الجميع يتغنّى بالمقاومة للمحتل المشترك الذي طال لبنان وفلسطين في آن واحد، والأدهى والأمرّ أن أحداث نهر البارد جرت بإيعاز من "حزب الله" الذي يتزعم المقاومة. * أيضا تعرض الفلسطينيون في الأردن إلى التضييق وما لا يمكن وصفه ليس من طرف النظام الحاكم بل حتى من الشعب الأردني نفسه، وطبعا لا تظهر المحبة والأخوة والمصير المشترك إلا في المناسبات والمؤتمرات التي تستغل لنهب المال العام والاستجمام في الفنادق الفخمة على حساب الغير، ولا تزال أحداث أيلول الأسود 1970 راسخة في الأذهان وسوف تتكرر بلا أدنى شك. * أما الملاحقات والمطاردات التي تطال الفلسطينيين في مصر لا يمكن حصرها، ويكفي أن الأمر وصل حد إقتراف جرائم التعذيب في حق جرحى غزّة الذين طالتهم المحرقة الصهيونية، بغض النظر عن الاغتيالات والقتل العمدي في السجون والمستشفيات وعبر الحدود والأنفاق. * من جهة أخرى نرى أن الأمر لا يقتصر على ما ذكرنا بل حتى معاناة الدول التي تستقبل الفلسطينيين على أراضيهم لا يمكن وصفها، فقد تورط اللاجئون والفارون والهاربون والمشتتون في قضايا إرهاب وتهريب وخيانة وفساد... الخ، فُتحت لهم أبواب الاستثمار على مصراعيها في إطار التضامن مع الشعب الفلسطيني المحتل ولكن قوبل بالاحتيال على المواطنين والعمال البسطاء وبالتهرب الضريبي كما جرى في الجزائر التي هي البلد الوحيد الذي لم يسيء للفلسطينيين بل أحسن إليهم بصورة لا يمكن تخيّلها، وأيضا شكلوا شبكات للتجسس على الدول التي ينزلون بها ولحساب من يحتل أرضهم، أقاموا عصابات التزوير التي لا تفعل ذلك من أجل تهريب الأسلحة والتخفي والنضال بل للنصب والاحتيال على أبناء الشعوب الأخرى، ينتهكون الأعراض وعلى حساب أموال المقاومات والدعم، الوشاية ببعضهم البعض... الخ. * الأدهى والأمر أنه عندما يراد تطبيق القانون عليهم تجدهم يذرفون الدموع على أنهم ضحايا مؤامرات لأنهم يناضلون من أجل فلسطين، والصحيح أن ما اقترف هو لصوصية وفساد لا يجوز مطلقا أن يتلطخ به كل منافح عن الشرف الرفيع. أكيد أن الأمر لا يطال الجميع فالشرفاء لا يمكن تجاهلهم، ولكن ما أشرنا إليه موجود في الكثيرين مما يجعلنا نقرع أجراس الخطر، لأن التحرير مهمة الكل في إطار عولمة التكتلات التي تحكم السياسة الدولية الآن. * لقد درست بكلية عسكرية عليا في الجزائر وعندما إلتحق بنا "فلسطينيون" للتكوين كضباط كنّا نتوقع أن يتحول هؤلاء إلى مثال بيننا يحتذى به في الإيمان بالقضية والعمل لأجلها، ولكن للأسف الشديد جعل البعض منّا يكره فلسطين واليوم الذي سمعوا فيه بها، فقد كان جلّ اهتمامهم هو السكر والدعارة والمخدرات وتبذير الأموال التي تقدم لهم من سفارة بلادهم ومن أموال شعبهم المحتل فيما يخدش الحياء والكرامة. والأمرّ أنهم يشتمون فلسطين وقدرهم الذي جعلهم ينتمون لهذا البلد ونحن كنا نردّ عليهم بغضب وكبرياء وخشونة أحيانا. وفي أحد المرات جمعني حديث مع شقيق الحارس الشخصي للراحل ياسر عرفات والذي كان معنا في التكوين، فتحدث بما لا يمكن أن يجول بذهني حيث تمنّى أن لا تخرج إسرائيل من فلسطين، وعندما سألته عن السبب أجاب قائلا: "نحن شعب مشرّد لا نستطيع أن نبني أو نسير دولة وإن خرجت إسرائيل فستقطع علينا المساعدات العربية والإسلامية والدولية وهو الذي يجعلنا نموت جوعا أو نقتل بعضنا البعض". فلما سألته: "هل تفضل الموت بالقصف الإسرائيلي على الموت جوعا؟"، أجابني: "بل أفضل العيش في أفخم الأحياء في أمريكا أو حتى تل أبيب"... هكذا هو رأي من تعدّه السلطة لمسؤوليات عسكرية ثقيلة وجسيمة وشقيقه يحمي ظهر زعيم القضية الفلسطينية الراحل ياسر عرفات.