أكثر الناس يكذبون أحيانا – اضطرارا أو اختيارا – بضع مرات، وبعضهم يكذبون ويتحرون الكذب، حتى يكتبوا عند الله – عز وجل – وفي التاريخ البشري بأنهم كذابون، وبعض هذا البعض يمكن اعتبارهم "مدرسة" في فنون الكذب. نعم قد لا يكثر إنسان من الكذب، ولكنه يكذب كذبة أو اثنتين أو ثلاثا تحله صدارة الكذابين، ويفوز ب "جائزة" الكذب، أو لقب "أكذب الكاذبين".. بسبب بشاعة وفضاعة تلك الكذبة أو الكذبتين. والكذوب عندي هو رمز فرنسا الكبير، الذي أحلها "الصدارة" بين الأمم في الكذب، أعني جنرالها دوغول، وحكمي على هذا الجنرال بالكذب مستند على كذبتين فقد تنهدّ لهما جبال الدنيا.. فأما الكذبة الأولى فهي زعمه أن الجزائر لم تكن دولة منذ برأ الله – عز وجل – البريئة. نحن نساير هذا الكذوب فيما زعمه، إن هو أجابنا عن سؤال واحد نهمسه في أذنيه "الطويلتين"، وهذا السؤال هو: مع من وقعت "دولتك" أكثر من ستين معاهدة واتفاقية، من ضمنها معاهدتها مع من فوّضتهم للتوقيع باسم فرنسا مع ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في مارس 1962؟ وأما الكذبة الأخرى، الأكبر من أختها، فهي زعمه أنه "تكرّم" على الجزائر، فأعطاها – باسم فرنسا – الاستقلال، مع استيقانه أنه بذل من الجهد العسكري والسياسي والدبلوماسي لإبقاء فرنسا في الجزائر أكثر مما بذله سبعة رؤساء حكومات فرنسية من قبله، أي من شهر نوفمبر 1954 إلى شهر ماي 1958، سنة عودة هذا الجنرال "النبيل" إلى الحكم.. وأما الكلمة التي صدق فيها الجنرال دوغول، فهي الكلمة الشاذّة التي تؤكد القاعدة، وهي قوله لصديقه الحميم، وزيره الأثير أندري مالرو: "أعظم مجد في العالم (هو) مجد الرجال الذين لم يستسلموا". (أندري مالرو: سقوط السنديان. ص 55). وسأهمس في أذنيك "الطويلتين" أيها الجنرال إن هذا المجد قد ناله بجدارة وعن استحقاق، شعب أراد الحياة، فاستجاب له القدر.. وهو الشعب الجزائري... إن الجنرال دوغول ومن قبله من حكام فرنسا وضباطها بمختلف رتبهم العسكرية شهدوا – قولا وكتابة – أن الشعب الجزائري لم يستسلم.. أجل، لقد هزم، وغلب من فرنسا، بسبب الفارق الكبير في الأعداد البشرية والعدد المادية، ولكنه لم يستسلم.. فما أن يسقط مجاهد في ميدان الشرف حتى يتلقف راية الجهاد مجاهد آخر، حتى آمنت فرنسا واعترفت كرها أن الجزائر ليست فرنسا، ولا تريد أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت.. كما قال "الصدوق" الإمام عبد الحميد ابن باديس.. إن الشعب الجزائري المجيد "لا يخاف من القطط – كما يقو المثل الإنجليزي – وإنما من رائحتها"، ويعلم الجميع أن الشعب الجزائري لم يخش فرنسا، بل نقل جهاده إلى أرضها التي جعلها "ولاية سابعة"، ولكنه "يخشى" رائحتها التي تركتها في الجزائر، وهي تخربها من الداخل.. فرحم الله شهداءنا الأبرار، ومتع بالصحة والعافية مجاهدينا الأحرار الذين لم يبدلوا.